الآراء المنشورة في هذه المجلة لا تعبر بالضرورة عن حقائق نهائية. لذا تتعهد الإدارة بنشر  ما يردها من القراء حولها

كانون أول/ ديسمبر  2009

   

قصة الكون والحياة

الإنسان - 3/3

 موسى ديب الخوري

   
 
 
 

"إذا كان صحيحاً أن الإنسان أتى من قرد، فلنصلّ لكي لا يذاع هذا الأمر‍!"

 هكذا هتفت سيدة إنكليزية عام 1860 عندما اكتشفت نظرية التطور لشخص يدعى داروين. ويبدو أن طلبها هذا لم يستجاب، فقد ذاع اليوم هذا الأمر وانتشر. ومع ذلك فلا تزال عوائق كثير تمنع انتشار هذه الأفكار الجديدة، وبخاصة المورايث الفلسفية والعقائدية. وذلك ناجم غالباً عن التباس في فهم معنى كوننا جئنا من القردة، إذ يعتقد الناس عموماً أن ذلك يعني الشيمبانزي مثلاً. والحق أن الإنسان جاء من نوع كان السلف المشترك للذريتين، سلالة القردة العليا في إفريقيا من جهة، وسلالة أشباه البشريات من جهة أخرى. فالإنسان ليس قرداً بالتالي إلا من منظور ترتيبه في التصنيف الحيواني. وكانت خصوصيته تحديداً أنه نجح في تخطي هذا الشرط البسيط. والحق اننا لا نستطيع تجاهل نسبنا، فنحن نحمله في جسمنا ومورثاتنا. ولا بد لنا من جهة أخرى من التأكيد على أن العلماء طوروا طرق بحثهم بدرجات فائقة بحيث يستطيعون مثلاً من خلال دراسة مينا سن بواسطة المجهر الإلكتروني رؤية حزات دقيقة تكشف عن الطريقة التي نمت بها السن، وهي تعطي مؤشرات حول نمو الفرد. وبالمقابل، فقد عثر العلماء على الأحافير في الترتيب المعاكس لقِدمها. وهكذا فقد اقتنعوا شيئاً فشيئاً بأن الإنسان أقدم بكثير مما كان يُظن.

ولا يمكن تحديد أصل واحد للإنسان كما كان يريد أن يفعل أصحاب الرؤى! وبالأحرى يستنتج العلماء تطوراً طويلاً للتسلسل الحيواني تظهر خلاله الصفات المختلفة في مواقعها. وضمن هذا المنظور يمكن إرجاع البدايات الأولى إلى نهاية العصر الطباشيري منذ سبعين مليون سنة. إنه فجر الحقب الثالث عندما كانت آخر الديناصورات في طريق الانقراض. لقد عانت البيئة عندها من تغيرات عميقة. وفي ذلك الحقب كانت أفريقيا عبارة عن جزيرة. وقد ظهرت على قارة كانت تجمع أوروبا وأميركا الشمالية وغرينلندا حيوانات صغيرة: إنها أولى القردة سليلة آكلات الحشرات. وقد بدأت تتكاثر في وسط نبات جديد تماماً هو أولى النباتات الزهرية. وكان بالتالي عصر أولى الثمار. وكانت القردة هي أول من استهلكها. وأدى ذلك إلى تغيرات تشريحية هامة على مر الزمن في بنية هذه الأنواع. وقد سمي أقدم هذه الرئيسيات البرغاتوريوس. ولم يكن حجمه ليزيد عن فأر. وبعد أن انتشر هذا النوع في العالم كله ظهرت منه منذ حوالي 35 مليون سنة أوائل أسلاف القردة وأشباه البشريات. إنها الرئيسيات العليا. وقد أدى تغير المناخ والجفاف الذي طرأ إلى ظهور عدة أنواع منها وأهمها قرد مصر كما سمي، وقد حقق إنجازات هامة على صعيد الرؤية والحياة المشتركة. ثم كان بعده البروكونسول الذي وصل حجم دماغه إلى 150 سم3. وقد شهد هذا النوع حدثاً هاماً. فمنذ 17 مليون سنة التقت الصفيحة القارية الإفريقية العربية بالصفيحة الأوروبية الآسيوية. وعبر هذا القرد بالتالي إلى أوروبا وآسيا وأعطى سلالات عديدة منها الرامابيثكوس الذي اعتقد لفترة طويلة أنه ينتمي إلى فصيلتنا، لكن هذا الاعتقاد خاطئ اليوم. فقد تبين أن أقرب إلى قرد الأورانج أوتان. وبالمقابل بينت الدراسات المخبرية على أسنان أحد الأنواع الأخرى التي ظهرت في أفريقيا أنها هي القريبة من البشر. ومع ذلك فقد أثبت العلماء أن الفارق بين الإنسان والشيمبانزي لا يتجاوز 1 % فقط.

إن البحث عن حلقة ضائعة بين الانسان والقرد كما كان شائعاً حتى وقت قريب أمر خاطئ تماماً. فهو يفترض وجود قرابة بين إنسان اليوم وقرد اليوم. إن ما يبحث عنه العلماء بالضبط هو السلف المشترك للبشر والقردة الكبيرة. ويتفق العلماء أن هذا الانشعاب حدث منذ نحو سبعة ملايين سنة. فقد انخسف وادي ريفت وصعدت بعض أطرافه لتشكل جداراً حقيقياً أمام الحيوانات. وقد شق هذا الانهدام إفريقيا الشرقية كلها حتى البحر الأحمر والأردن وانتهى إلى البحر المتوسط. وكان طوله الكلي 6000 كلم وعمقه أكثر من 4000 كلم. وأدى ذلك إلى تغير المناخ، فاستمرت الأمطار تهطل في الغرب، وراحت تتناقص شيئاً فشيئاً في الشرق. فأسلافنا الذين ظلوا في الغرب تابعوا حياتهم الشجرية. لكن الذين وجدوا أنفسهم معزولين في الشرق واجهوا السافنا ثم السهوب. وأدى ذلك إلى تطورين مختلفين عبر الأجيال. فأعطت أجيال الغرب القردة الحاليين، وأعطت أجيال الشرق أشباه البشر ثم الإنسان. إن كل ما يمزينا، من وضعية الوقوف وغذائنا المتنوع ونمو دماغنا واختراع أدواتنا قد نجم عن تكيف مع وسط أكثر جفافاً. تلكم الآلية التقليدية للانتقاء الطبيعي. فمجموعة صغيرة من الأسلاف كانت تملك مواصفات مورثية تشكل مزايا من اجل الاستمرار أفضل في هذه البيئة الجديدة أصبحت شيئاً فشيئاً هي الأغلبية السائدة في الجماعة. ومن هذه الميزات المورثية ربما كان النمو المختلف للحوض الذي سمح لهم بالانتصاب بسهولة أكبر، الأمر الذي مكنهم من رؤية طرائدهم والمدافعة عن صغارهم وعن أنفسهم بشكل أفضل. وقد ولد الكائن الذي انتصب فيضاً من الأنواع الجديدة، وهي ترجع كما قلنا إلى نحو 7 ملايين سنة. إنهم الأوسترالوبيثكوس أو أشباه البشريات. ومرة أخرى تدخل الانتقاء الطبيعي لصالح أحد الأنواع الذي أدى لظهور البشريات الأولى.

ومنذ نحو ثلاثة ملايين سنة كانت البشريات الأولى قد ظهرت وكانت تعيش في الوقت نفسه مع أنواع الأوسترالوبيثكوس الأخرى. ولم تستطع أنواع أشباه الإنسان هذه تجاوز عشها البيئي. وعندما أصبح نوعهم أقل خصوبة انقرضوا بعد عدة مئات من آلاف السنين. وفرضت البشريات الأولى نفسها. فهي أكبر حجماً وأكثر انتصاباً، إضافة إلى أنها كانت تتغذى بكل شيء تقريباً. وكان هذا الكائن انتهازياً جداً ومزوداً بأدوات أكثر فأكثر فاعلية. ومن أشهر أنواع الهومو الإركتوس أي المنتصب والهابيليس أي الماهر والسابيان أي العارف. ولكن يمكن القول إن النوع الإنساني كان قد بدأ تطوره معها.

وكان هؤلاء البشر محبين للاستكشاف إضافة إلى حاجتهم الدائمة للصيد وملاحقة الطرائد. وكانوا مدهشين جداً عندما بدؤوا يرمون بالحجارة. وكانوا يعيشون دون شك في مجموعات صغيرة من عشرين إلى ثلاثين شخصاً. وكانت المجموعة كلما كبرت انقسمت من جديد وابتعدت مشكلة جماعة أخرى. وكان ذلك عاملاً حاسماً في إعمار الكوكب. ونجد آثار الحجارة المنحوتة التي تركوها في معظم أنحاء العالم تقريباً. ومن خلال هذه الحجارة نستطيع غالباً معرفة الأنواع التي ارتحلت وتطورت. ويمكن القول بشكل أساسي إن نوع الإركتوس لعب دوراً كبيراً في تطوير التقنيات، وفي اختراع النار منذ نحو 500000 سنة. ومع اختراعه لتقنيات دقيقة في النحت اختفى الهومو إركتوس منذ نحو 300000 ألف سنة تاركاً المجال للهومو سابيان ليحتل الساحة. وقد ظهر منه نوع في أوروبا هو نياندرتال تعايش مع نوع آخر للسابيان هو كرومانيون الذي تطور في آسيا وأفريقيا. ويعتقد العلماء عموماً أن كرومانيون تغلب على نياندرتال بلطف إمكانياته ومرونته. وهذا هو الإنسان الذي أدى إلى ظهورنا نحن مباشرة.

 خاتمة

التطور مستمر حتى الآن. لكنه الآن تقني واجتماعي بشكل خاص. ولعله في العمق نفسي وروحي. ونحن اليوم نحمل شئنا أم أبينا مشعل التطور. إننا عند منعطف حاسم للتاريخ أشبه بظهور الحياة. فما الذي يتهيأ للظهور من خلالنا؟ وبعد المرحلة الكونية ثم الكيميائية ثم البيولوجية، ها نحن ندشن الفصل الرابع الذي على الإنسانية أن تلعبه إنما مع وعي للمصير والتحولات التي ستنجم عن كافة تدخلاتنا مهما كانت بسيطة. وكما يقول جويل دو روني فنحن في طريقنا إلى اختراع نمط جديد للحياة. إنها عضوية كوكبية هائلة تشتمل على العالم الحي كله وكافة ما أنتجه التطور البشري. وفي هذا التطور تمثل اختراعاتنا مكافئات للطفرات، ونحن نتقدم بسرعة أكبر بكثير من التقدم الدارويني؛ ونجتذب لصالحنا اليوم مصادر الطاقة والمعلومات والمواد ونرمي بالفضلات في البيئة مما يؤدي في كل مرة إلى فقر المنظومة التي تسندنا. والحل لا يكمن في إيجاد محميات، ولا في الإرتحال بعيداً عن الأرض نفسها، بل في إيجاد توازن حقيقي بين التكنولوجيا والأرض وحاجاتنا.

وعلينا من جهة أخرى ألا ننسى أن جسمنا يتغير ببطء شديد ولكن بسرعة كبيرة قياساً إلى سرعة تطور البشريات السابقة لنا. وخلال فترة قادمة إنما نحضر لولادة كائن أكثر كمالاً منا. وهذا يعني أكثر كفاءة وقدرات. كذلك فإن انطلاق الإنسان إلى الفضاء والذي بات وشيكاً أمر لا يجب أن يغيب عن بالنا أبداً. فهو يعني يقيناً أن بيولوجية الإنسان وثقافته ستتغيران على حد سواء. وربما نكون مقبلين على إعمار الكون القريب بكائنات ستختلف اختلافات كبيرة عنا خلال أوقات قصيرة.

إن قدرتنا اليوم على سرد هذه القصة للكون والحياة والإنسان تشير إلى مقدار تقدمنا المعرفي والتقني. وعلينا أن نغتبط لذلك بقد ما نشعر بمسؤولية هذه المعرفة.

الفصل السابق - الحياة

 
 
 

أرسلوا هذه الصفحة للأصدقاء


عودة إلى صفحة العلوم

عودة إلى الصفحة  الرئيسية

حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ

مدن محظورة   2009      modon net