الآراء المنشورة في هذه المجلة لا تعبر بالضرورة عن حقائق نهائية. لذا تتعهد الإدارة بنشر  ما يردها من القراء حولها

تشرين أول/ أكتوبر  2009

   

كـذبات أمـي الثمانـية

شي لو تونغ

   
 
 
 

منذ طفولتي كانت عيناي معلقتين بشفاه أمي وأذناي تنصتان لما تتفوه به. كانت كلماتها تنطبع دوما على جدار القلب وتحفر في الذاكرة أخاديد عميقة. لكن أمي  لم تقل الحقيقة دوما.

ثماني مرات كذبت أمي عليّ  !

 

كنت الابن الوحيد في أسرة شديدة الفقر. لم يكن لدينا من الطعام ما يكفينا، ولطالما قضينا أياما وبطوننا ملتصقة بظهورنا... وحين نجد في يوم ما بعضا من الأرز  نسد به جوعنا ، كانت أمي  تحوّل الأرز من طبقها إلى طبقي وهي تقول:

تناول هذا الأرز يا ولدي.. فأنا لست جائعة.

وكانت هذه كذبتها الأولى

 

كبرت قليلا...  كانت أمي تنتهي من شئون المنزل وتذهب للصيد في نهر صغير بجوار منزلنا. وفي كل مرة يحالفها الحظ باصطياد سمكة كانت تهرع إلى المنزل وتعدها لي لأن علي أن أتغذى لأنمو.

في مرة من المرات استطاعت أن تصطاد سمكتين. أسرعت إلى البيت وأعدت الغذاء ووضعت السمكتين أمامي. حين بدأت بتناول السمكة الأولى كانت أمي تتناول ما يتبقى من اللحم حول العظام والشوك.  اهتز قلبي لذلك فوضعت السمكة الأخرى أمامها لتأكلها فأعادتها أمامي فورا وقالت:

يا ولدي تناول هذه السمكة أيضا ألا تعرف أني لا أحب السمك..

وكانت هذه كذبتها الثانية

 

كبرت.  كان لابد أن ألتحق بالمدرسة، لكن لم يكن معنا من المال ما يفي بشراء الأدوات والكتب وغيرها من نفقات الدراسة، فذهبت أمي إلى السوق واتفقت مع موظف بأحد محال الملابس على  أن تقوم هي  بالبيع  في  المنازل بعرض الملابس على السيدات.  

في ليلة شتاء ممطرة تأخرت أمي في العمل،  فخرجت من المنزل للبحث عنها في الشوارع المجاورة. وجدتها تحمل البضائع وتطرق أبواب البيوت فناديتها : أمي هيا نعود إلى المنزل فالوقت متأخر والبرد شديد وبإمكانك أن تواصلي العمل في الصباح.

ابتسمت أمي وقالت لي :

يا ولدي.. أنا لست مرهقة ..

وكانت هذه كذبتها الثالثة

 

حين جاء موعد اختبار آخر العام بالمدرسة أصرت أمي على الذهاب معي. بعد دخولي إلى المدرسة وقفت أمي جانب السور تنتظر خروجي تحت أشعة الشمس المحرقة.

خرجت إليها حين دق الجرس وانتهى الامتحان، فاحتضنتني بقوة وحنان وقدمت لي مشروبا منعشا في  كوب كانت قد اشترته لي. فتناولته منها بلهفة  لشدة العطش، ورفعته إلى فمي لأروي عطشي. بعد جرعتين منه  نظرت إلى وجهها فوجدته يتصبب عرقا، فأعطيتها الكوب على الفور وقلت لها:

اشربي يا أمي !..

فردت: يا ولدي اشرب أنت أنا لست عطشانة..

وكانت هذه كذبتها الرابعة.

 

بعد وفاة أبي كان على أمي أن تعيش حياة الأم الأرملة الوحيدة. صارت مسئولية البيت تقع على عاتقها وحدها فأصبحت الحياة أكثر تعقيدا ومشقة.  وصرنا نعاني الجوع في كثير من الأحيان رغم أن  عمي الذي يسكن بجوارنا كان رجلا طيبا يرسل لنا ما نسد به جوعنا من وقت لآخر.

عندما لاحظ الجيران حالتنا تتدهور من سيء إلى أسوأ نصحوا أمي بأن تتزوج رجلا  يحبها وينفق علينا فهي لازالت صغيرة . لكن أمي رفضت الزواج قائلة:

أنا لست بحاجة إلى من يحبني وينفق علي وعلى ابني.

وكانت هذه كذبتها الخامسة

 

حين انهيت دراستي وتخرجت من الجامعة، كانت أمي تفرش حصيرا على الأرض في السوق لبيع الخضار لأن صحتها لم تعد تساعدها على الطواف بالمنازل. وحين  حصلت على وظيفة جيدة اعتقدت أن هذا هو الوقت المناسب لكي تستريح أمي من عناء العمل وتترك لي مسؤولية الإنفاق على المنزل. لكنها  رفضت أن تترك العمل، ورفضت أن تأخذ مني ما خصصت لها من راتبي  قائلة:

يا ولدي احتفظ بمالك..  إن معي من المال ما يكفيني..

وكانت هذه كذبتها السادسة

 

إلى جانب عملي واصلت دراستي كي أحصل على درجة الماجستير.  وبالفعل نجحت وارتفع راتبي ومنحتني الشركة  التي أعمل بها الفرصة للعمل في الفرع الرئيسي في المدينة الكبيرة التي كنت أحلم بها دوما. فشعرت بسعادة بالغة وبدأت أخطط لبداية جديدة وحياة سعيدة.

بعد أن انتفلت إلى المدينة الكبيرة وهيأت الظروف لحياة هنيئة، اتصلت بأمي أدعوها لكي تأتي للإقامة معي ولكنها لم تحب أن تضايقني  وتعرقل مشاريعي  فقالت :

يا ولدي .. لن آتي  إلى المدينة لأني  لا أحب المعيشة المترفة ...

وكانت هذه كذبتها السابعة

 

كبرت أمي وأصبحت في سن الشيخوخة.  تتالت عليها الأمراض والعلل، وصارت بحاجة إلى من يكون بجانبها ليعتني بها ويقوم بتمريضها. بذلت ما بوسعي لتوفير الراحة لها وأنا بعيد عنها.  ذهبت لزيارتها في منزلنا القديم فوجدتها طريحة الفراش. انهمرت الدموع من عيني لأنها لم تكن أمي التي أعرفها فقد اشتد بها الهزال ونال منها الضعف، ومع ذلك كانت تبتسم لي وتواسيني وتقول:

لا تبكي يا ولدي فأنا لا أشعر بالألم...

وكانت هذه كذبتها الثامنة.

ثم أغلقت عينيها ولم تفتحهما بعدها أبدا. 

 

لا تزال الغصة تملأ حلقي..  لقد ماتت أمي وهي تكذب  علي!

 

 
 
 

أرسلوا هذه الصفحة للأصدقاء


عودة إلى صفحة الأدب

عودة إلى الصفحة  الرئيسية

حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ

مدن محظورة   2009      modon net