الآراء المنشورة في هذه المجلة لا تعبر بالضرورة عن حقائق نهائية. لذا تتعهد الإدارة بنشر  ما يردها من القراء حولها

تموز/ يوليو  2010

   

المتشرد !..

 صموئيل حنا

   
 
 
 

افترشَ الدّرجة الثّانية أمام نبع الماء في وسط ساحة البانتيون معبد الرّومان الشّهير. ثيابُه متّسخةٌ ممزّقة، وشعرُه منكوشٌ مُهمَل، له سحنةٌ كأنَّ الدّهرَ طبعَها بميسم النّكد والعسر من قبل أن تبصرَ عيناه وجهَ الدنيا. الجوعُ يعصرُ معدته الخاوية خواء الصّحراءِ من الماء! والتّعبُ بادٍ في حركاتِه الوانية، ونظراتِه الخاملة الضبابيّة المستعطفة للعابرين المارّين بهِ، فيرى ظلالَهم ولا يرونَ منه شيئاً. السّاحةُ تعجُّ بالصّخبِ وتزدانُ باللهوِ والحركة، وتُشرقُ بالابتسام والضّحكِ. فأمّا هو، فكانَ أشبه بنقطةٍ سوداء في صفحةٍ بيضاء، لكأنّه خارجٌ عن سطرِ السّاحة، ولكأنّ بؤسَه وشعورَه المُجهَد بالعزلة أبيا أن يندمجَ بروحِه أو جسدِه في فسيفساء الفرحِ التي انتشرتْ فوقَ ساحة البانتيون.

تنحنحَ بعدَ أن استردَّ بصرَه الذاهل، فردَ رجلَه اليُمنى، فبدتْ نحيفةً كقصبةٍ جافّةٍ مرضوضة، اتّكأ بيده اليُسرى على الدّرجة الثّالثة، ثُمَّ قامَ متثاقلاً يتحاملُ على نفسِه كعجوزٍ هرمٍ هدّته السّنون وأنهكَه مضيُّ الأعوام. ترنّحَ في مشيته من فرطِ جوعِه، وراحَ متّجهاً نحوَ حاويةِ القُمامة يُمعنُ النّظرَ فيها بجفنٍ لا يرفّ. فلمّا بلغها بعدَ جهدٍ جهيد، صعّدَ أنفاساً من صدرِه المغطّى بأسمال رثّة، ثُمَّ اعتمدَ بيسراه على حافّتها، وغاصَ برأسِه فيها، وراحَ يفتّش بيُمناه بين القمامة المتراكمة بحركةٍ خاملةٍ بطيئة، يقلّبُ هذا ويرفعُ ذاكَ، والمارّون يعبرونَ ورؤوسهم مرتفعة نحو المعبدِ الفارغ! حتّى عثرَ أخيراً على قطعةٍ من الخبز، فانتشلَ رأسَه من الصّندوق وانتصبَ بظهرِه. أدنى كسرة الخبزِ من أنفه متفحّصاً، فنفرَ كطيرٍ جافل، بعدَ أن لفحتهُ رائحتُها المنتنة، ونأى بها عن وجههِ المعتكر، ومع ذلك لم يرمِها، بل شرعَ يمسحها بيدِه ويفركها بثيابه عندَ الصَّدر. عادَ ورفعَها إلى أنفِه ثانيةً وشمّها من جديد، فبانَت على وجهِه علامات الارتياح، فتراجع عن الصّندوق بخطواتٍ متعثّرة وعادَ مترنّحاً إلى جلستِه حيثُ كان.

هنيهة مرّت بعدَ أن طوى ركبتيه وجلسَ، ثمَّ قضمَ من الخبز قضمةً راحَ يلوكها في فمِه برضىً وهو يحدّق في الكسرةِ بين يديه. حانتْ منه التفاتة فوقعت عيناه على حصانٍ مشدودٍ إلى عربةٍ يقفُ خلفَها حوذيٌّ أنيق يترقّبُ السيّاحَ الرّاغبين في التجوال في قلبِ المدينة. فنهضَ من مجلسِه الحجريّ وهو يواصلُ مضغَ اللقمة الأولى، واقتربَ من الحصانِ وأسرَّ له شيئاً، ثمَّ رفعَ يده وقرّب الخبزَ من فمه الواسع، أجابَه الحصانُ بهمهمةٍ لفتت نظرَ الحوذيِّ الذي رأى المتشرّدَ يدفعُ الخبزَ في فم الحصان المفتوح، فقفزَ كالملسوع وأسرعَ فشدَّ الخبزَ من فمِ الحصانِ ورماه على الأرض، والتفتَ نحوَ المتشرّدِ غاضباً وراحَ ينتهره مهدّدًا متوعّدًا. نظرَ إليه المتشرّدُ صامتاً، وهزَّ رأسَه في أسفٍ، ثمَّ انحنى على الأرض والتقطَ بقيّة الخبزِ فمسحَه بثيابِه كما فعلَ في المرّة الأولى وعادَ إلى مكانِه.

وكأنّه أدركَ أنّه ارتكبَ حماقةً لا تُغتفر، فجعلَ يقضمُ من الخبزِ بغضبٍ قضماتٍ يمضغها في فمه حتّى تلينَ، ثمَّ يبصقها منه على دفعاتٍ منتقماً منها أو من نفسِه. بعدَ قليلٍ ألقى ما تبقّى من الخبز على الأرض بعصبيّةٍ، ووقفَ بغتةً مستنداً بذراعيه إلى ركبتيه مقوّساً ظهرَه متمّماً طقسَ البصاق. خطا نحوَ الحصانِ بوجلٍ يترقّبُ الحوذيَّ، يقدّمُ رجلاً ويؤخّرُ أخرى، حتّى غلبَ خوفَه وبخطوات أخرى أدركَ الحصانَ ووقفُ قبالةَ وجهِه. نسيَ في غمرةِ الجوعِ كلَّ شيءٍ، نسي المعبدَ والسّاحةَ والنّاسَ، ولم يعدْ يرى من ذاكَ الجمع سوى عيني الحصانِ المبرقعتين، ولم يعدْ يسمع من الصّخبِ إلا همهمته الحزينة. أشارَ إليه براحتيه الفارغتين وابتدأ يخبره بحزنٍ وأسى عن وليمة ضاعتْ منهما... بصوتٍ متفجّعٍ كثكلى عاتبَه، وصرخَ وهدرَ ثوانياً ثمَّ هدأ وصمتَ. أفرغَ في غضبِه ما تبقّى له من طاقة، وعادَ منسحباً مهزوماً إلى مكانِه فوق درجات النّبعِ وقد ضاقتْ أنفاسُه فسقطَ وتلوّى حتّى اعتدلَ. جمعَ رأسَه بيديهِ وطفقَ ينشجُ وينتحبُ. شاهدَه رجلٌ حسن الهندامِ فدنا منه، ووضعَ يدَه على كتفِه المهزولِ مواسياً. واغتنمَ آخرٌ هذه الفرصة، فسدّدَ نحوَ المتشرّدِ عدسة آلة التّصوير، ودفعَ سبَّابته ضاغطاً على زرّ التسجيلِ ليفوز بصورةٍ فريدةٍ لمتشرّدٍ يبكي في وسطِ ساحة البانتيون.

 
 
 

أرسلوا هذه الصفحة للأصدقاء


عودة إلى صفحة الأدب

عودة إلى الصفحة  الرئيسية

حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ

مدن محظورة   2009      modon net