آذار / مارس  2009

الآراء المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن حقائق نهائية.. لذا تتعهد الإدارة بنشر ما يردها من القراء حولها    

 
 

 

 

 

أمـة فيروز

الشاعر: لقمان الديركي


 

ذات يوم خريفي من عام 1985 قررنا عدم الذهاب ـ نحن الممثلون في المسرح الجامعي بحلب ـ إلى تدمر كي نقوم بأداء أدوارنا ككومبارس في فيلم (وقائع العام المقبل) للمخرج سمير ذكرى إلا إذا وفرت لنا إدارة الجامعة الفرصة لحضور حفلة فيروز على مدرج بصرى قبل موعد التصوير بيوم واحد.

كانت تدمر وما زالت تقع وسط سوريا تماماً بينما تقع بصرى جنوب سوريا، لذلك كان علينا بعد حضور حفلة فيروز الانطلاق ليلاً باتجاه تدمر كي نؤدي دور الجمهور الذي يحضر حفلاً موسيقاً لموسيقي سوري يعاني من البيروقراطية وتعنت المسؤولين، ونجح اعتصامنا غير المعلن بل واستطاعت إدارة جامعة حلب الحصول على بطاقات خاصة بنا لحضور الحفلة، ونظراً للفائض في البطاقات قررنا دعوة زملائنا الأدباء في الملتقى الأدبي ليذهبوا معنا، وكنت وقتها أنتمي إلى الطرفين معاً، وانطلق باصنا المجيد باتجاه دمشق.

وكالعادة بدأت الانقسامات فور صعودنا، فجماعة الملتقى الأدبي اتخذت المقاعد الخلفية ملاذاً لها بعيداً عن الأضواء التي يسعى إليها الممثلون الذين احتلوا المقاعد الأمامية، وبدأ الممثلون بالتهريج وإطلاق النكات بينما كان الأدباء يرددون الأغاني الملتزمة بوقار شديد، فاختلطت الأصوات ببعضها البعض، ودخلت النكات بقوة كفواصل في قلب الأغنية الواحدة فكنا نسمع (واحد أحول طلق زوجة أخيه) على خلفية أغنية حزينة عن الشهيد لسميح شقير تقول كلماتها (رجع الخي يا عين لا تدمعي له) أو نكته عن (خمسة يمينين سموا أنفسهم الفرسان الثلاثة) على أنغام أغنية لمارسيل خليفة (جينا ع الدار جيناكي.. يمن الأحرار جيناكي)، وما بين التزام الأدباء ومياعة الممثلين كنت عصفوراً طائراً بين الفريقين تشدني نظرة صارمة من أحد الأدباء إلى فريق الأدب وتأخذني ابتسامة عاتبة من إحدى الممثلات إلى فريق الممثلين، لكنني كنت في باص كالجميع حدد لنفسه اتجاهاً جغرافياً واحداً هو.. فيروز..

وصلنا إلى جامعة دمشق ظهراً وهناك طلب البعض منا أن نبيعهم بطاقاتنا، ولكننا رفضنا بشمم وإباء رغم المبالغ الهائلة التي دفعوها لنا، لكن صديقي الممثل وديع عمسيح باع بطاقته بألفي ليرة "خمسمائة دولار" وقتها، وقال لي: "ستكون هناك فوضى وسيدخل الناس دون بطاقات".

وصلنا إلى بصرى مساء، ودخل باصنا الجليل إلى المنطقة المحيطة بالمدرج فوجدنا أمَّة فيروز كلها بانتظارنا، آلاف وآلاف البشر من كل الأصناف، ضباط ومسؤولون وطلبة وأغنياء وفقراء ورجال ونساء وأطفال وشيوخ ورضع وبائعو مرطبات وحلويات وموالح وساندوتيش و..و.. نظر إلي وديع مبتسماً وهو يهدئ من روع نفسه "أرأيت.. سيدخلون الناس بدون بطاقات" قلت له أنا الصامد الذي رفض بيع بطاقته "بالعكس.. لن يدخل أحد دون بطاقة لأن المدرج لن يتسع لكل هذه الأمة"، ارتعد وديع من نظريتي واصفر وجهه من فكرة عدم حضور حفلة فيروز، تابعت بسادية، "لقد وضعوا مكبرات صوت في الخارج كي يستمع الذين لا يملكون البطاقات من خارج المدرج".

امتقع لون وديع ونشف ريقه وهو ينظر إلي برعب، أخرجت بطاقتي من جيبي وتلمستها بحنان، نظر وديع إلى بطاقتي وبلع ريقه كجائع يقف أمام باب المطعم.

وقف عناصر حفظ النظام أمام الباب الذي فتح لتوه وبدأوا بتنظيم عملية دخول أمة فيروز، كل بطاقته في يمينه، وطفرت دمعة من عين وديع اليمنى وهو يلاحقني كظلي.

التحق بي صديقنا السوداني منتصر والممثلة لبابة يونس وشقيقتها سراب، قالت لبابة "اجمعوا بعضكم" وجمعنا بعضنا واتجهنا نحو الباب وكان وديع يدحش نفسه بيننا ممنياً نفسه بدخول جماعي لجماعة المسرح الجامعي.

كان أصحاب البطاقات يقفون ممسكين بطاقاتهم بقوة كالهررة الممسكة بفخذ فروج مشوي وسط نظرات الحسد والحسرة من باقي أمة فيروز التي بلا بطاقات، قال لي وديع متحسراً "ندمان يالقمان.. والله ندمان" ابتسمت بشماتة وقلت له "تحتاج إلى ثورة كي يتم الدخول من دون بطاقات".. ثورة!!.. فكر وديع في الأمر ونظر إلى الحشود التي بلا بطاقات نظرة متأملة ذات مغزى، حزرتُ بم يفكر فأردفت "ولكن الثورة بحاجة إلى رجال.. وإلى قائد أيضاً"، نظر إلي وديع باهتمام وتابعنا مسيرتنا باتجاه الباب.

وعلى الرغم من الزحام الهائل فإن رجال حفظ النظام كانوا يتعاملون بصرامة مع مجرد أن يفكر أحدهم بالدخول دون بطاقة، ولكن كان لأمة فيروز رأياً آخر، فقد اندلعت الثورة فجأة، ثورة الفقراء ـ هم ليسوا بفقراء بدليل أن وديع يملك خمسمائة دولار في جيبه ـ ولكنهم فقراء فيروز.. ثورة الذين بلا بطاقات، نظرت إلى جانبي فلم أجد وديع، بحثت عنه بين مجموعة المسرح ولكن لا أثر له.. اختفى، اقتربت حشود الثوار منا.. خبأت بطاقتي في جيبي خوفاً من أعمال النهب التي ترافق الثورات عادة، نظرت بهلع إلى رجالات الثورة فوجدت وديع يتقدمهم كذئب جريح وهم يرددون خلفه شعاراً واحداً فقط "عليهم يا شباب".

صرخ بنا "عثمان عثمان" أن نتفرق كي لا نضيع وسط الفوضى، فأمسكنا بأيدي بعضنا البعض ونحن نتلقى الضربات من هنا وهناك، ولكننا قبلنا بالأمر الواقع ونحن نرى حال الوزراء وهم يتدافعون بشراسة دون مرافقيهم الذين هرعوا باتجاه البوابة تاركين أسيادهم لمصيرهم المجهول.

حاول رجال حفظ النظام إيقاف وديع وثورته ولكنهم فشلوا أمام الشعار الحماسي اللاهب ألا وهو "عليهم يا شباب" والذي كان يصدر من الأمة الثائرة على شكل حشرجة جماعية لا على شكل هتاف، وبسرعة لا متناهية امتدت ثورة البطاقات ودخلت أمة فيروز كلها في الثورة بعد أن رمينا البطاقات وانجرفنا مع التيار الثوري ونحن نردد شعار الثورة العظيم "عليهم يا شبااااب".

تراكضنا على المدرج الأثري ونحن نبحث عن مكان استراتيجي نجلس فيه، بينما حظي رجالات الثورة ومن بينهم وديع بأقرب الأماكن وأفضلها، وعاد رجال حفظ النظام إلى عملهم المعتاد بمساعدة الثوار أنفسهم لتنظيم عمليات جلوس الأمة، وجلسنا أخيراً لبابة وسراب وأحمد جمالي ومحمود الخطيب وأنا بجانب بعضنا البعض بانتظار الملائكة.

أغلقت الأبواب ودخل أكثر من ثلاثين ألف إلى المدرج الذي لا يتسع لأكثر من خمسة عشر ألفاً، بينما بقي في الخارج ثمانون ألف شخص من أمة فيروز اللامتناهية العدد مكتفين بسماع صوتها من المكبرات الخارجية، تأخرت فيروز.. مرت ساعة ولم تظهر فيروز، لكن أحداً لم يتأفف، كانوا جميعاً راضين وسعداء، وكان العميد المسؤول عن التنظيم يتمشى مسروراً في أنحاء المدرج وهو يرقب جماهير السعادة بعين الرضا، ويمر بين رجاله.. رجال حفظ النظام الذين قهرتهم الثورة قبل ساعة ويرمقهم ـ مع ذلك ـ بفخر واعتزاز.

ساعتان بالتمام والكمال والجماهير تنتظر على المدرجات ،على الأرض، على فواصل المشاة، تحت البيانو، بين العازفين، خلف المايسترو سليم سحاب ـ كم أعجبنا به يومها ـ وفيروز لم تظهر بعد، كان أعضاء الفرقة ينتظرون فيروز معنا، وكان يتفقون مع الجمهور الذي يجلس بينهم على المساحات اللازمة لكل عازف كي يعزف، فقد كانت الفرقة تحتل الأرض التي تحت المسرح مباشرة، وكان بين العازف والعازف أكثر من عشرة متفرجين، أما البيانو فقد جلس تحته أكثر من عشرين شخصاً بالانتظار.

وظهرَتْ.. بيضاء، بيضاء.. بيضاء.. لا ينقصها شيء كي تكتمل، لكن لا شيء يكملها، سر من الكمال، سر من النقصان، بياض رهيب.. مخيف.. حنون.. جمال لا متناه أمامي، لكن بعيد.. بعيد، طفل يحبو وهو ينظر إلى الأرض ثم يرفع رأسه فجأة فيتجمد الجميع، تجمدنا جميعاً وصمتنا جميعاً، حتى دقات القلوب، وغنت فيروز، لم يصدق أحد أنه يرى ويسمع، لم يصدق أحد أنه كان موجوداً في هذا المكان في ذلك الوقت، تلمست جسدي.. ووضعت كفي على وجهي كي لا ترى لبابة دموعي، ثم خطفت نظرة فرأيت جميع الأكف وقد غطت جميع الوجوه.

انتهى الفصل الأول وغادرت فيروز إلى استراحتها وبدأنا رحلة انتظار أخرى، لكن هذه المرة مع ثوار جدد، فقد اندلعت الثورة الثانية في الاستراحة، وكانت ثورة عبوات المياه البلاستيكية الفارغة إذ كان المتمردون الجدد يرمون بعبوات المياه البلاستيكية من الأعلى إلى الأسفل، فترتطم العبوة برأس أحدهم فيرميها أوتوماتيكياً باتجاه رأس آخر على الدرجات الدنيا، وبالطبع فقد نلنا نصيبنا عندما سقطت عبوة على رأس لبابة فأمسكت بها كي ترميها لكن كان لأحمد أن ينتزع العبوة وينال شرف رميها بنفسه، ويا لهول ما حدث، فقد ارتطمت العبوة برأس العميد الآمر الناهي في ذلك اليوم، نظر العميد إلينا فأشرنا بدون تردد إلى أحمد في لحظة خيانة تاريخية لا شعورية، وكانت ليلة القبض على أحمد.

بعد اقتياد أحمد إلى سجن المسرح توسلنا العميد والملازم الفخور بمعلمه أن يخرج ولكن العميد رفض ذلك وقال بأنه لن يخرج إلا بعد انتهاء الحفلة كعقوبة يجب على أحمد أن لا ينساها طيلة عمره، وأية عقوبة؟!.. حرمانه من فيروز، وبالطبع فقد وافقنا نحن الخونة على التسوية، بل وسرعان ما نسينا أحمد مع الظهور الخيالي الثاني لفيروز.

اندمجنا كلياً، وكانت سراب يونس أكثر المندمجين، كيف لا وهي التي تغني لنا أغاني فيروز كل يوم بصوتها المنتمي إلى أمة فيروز، بل إنها سجلت شريطاً مع ميادة بسيليس وهاسميك لأغان فيروزية قديمة وبتوزيع سمير كويفاتي ذلك الصديق الحنون وأحد أشاوس أمة فيروز الممتدة إلا ما لا نهاية، وذلك في العام 1985 أيضاً.

انتهى الحفل ولم ينته، كانت كلما همت بالذهاب نعيدها إلينا، لو ظلت فيروز تستجيب لأصواتنا المطالبة بعدم ذهابها لبقيت واقفة على مسرح بصرى وسط بكائنا وتصفيقنا طيلة الزمان.

لكن لكل حلم نهاية، وكانت نهاية حلمنا كابوس المغدور به "أحمد جمالي" القابع خلف القضبان يرزح في القيود والاصفاد والأغلال وهو يغني أغنية لفيروز تدعى "يا حرية" "يا زهرة برية"، هرعنا نبحث عن العميد لكن دون جدوى، اختفى العميد الظالم، وباص الجامعة ينتظرنا، رحلتنا إلى تدمر طويلة، والمخرج ينتظرنا نحن الكومبارس العتيد.

أرسلنا الجميع إلى الباص بعد أن تبرعنا بإحضار أحمد أنا وعثمان، وفي غمرة بحثنا اليائس عن العميد عثرنا على الملازم قلنا للملازم بأننا نريد زميلنا، فقال لنا بعنجهية بأنه لا يستطيع إخراجه إلا بأمر شخصي من العميد..

ـ لكن العميد قال بأن تخرجه بعد انتهاء الحفل.

ـ لا أستطيع.

ـ والحل؟!..

ـ نذهب ونقابل العميد، قالها لنا وكأنه يشجعنا على ذلك، وافقنا.. ومشينا خلفه إلى حيث العميد ودخلنا في ممرات مظلمة واجتزنا دهاليز أثرية من دهاليز مدرج بصرى الروماني الشهير إلى أن وصلنا إلى بوابة فخمة مغلقة، كان هناك بعض الحراس الذين سمحوا لنا بالدخول مع الملازم إلى أجمل قاعة رأيتها في حياتي، ليس لأنها باهرة التصميم، وليس لأنها تضم نخبة النخبة من البشر الجالسين إلى مائدة عشاء طويلة، وليس لأننا شاهدنا أعضاء فرقة فيروز الجالسين إلى العشاء، وليس لأننا شاهدنا العميد شخصياً كي يفرج عن صديقنا أحمد، بل لأننا لم نشاهد كل هذا، لم نشاهد سوى حلمنا الوحيد منذ أن خلقنا وهو يتجسد في صدر المائدة، إنها فيروز بثوب خرافي وشعر سابل يكاد أن يكون موسيقا، بل إنه موسيقا.

أشار الملازم إلينا وهو يحادث العميد ولكن العميد الذي نهض من على كرسيه البعيد عن فيروز وعوضاً من أن يتجه إلى الملازم وعثمان اتجه نحوي، نعم نحوي.. فقد كنت في تلك اللحظة قد أصبحت واقفاً بهيئة راكع بجانب فيروز، ووقف العميد إلى الجهة الأخرى من فيروز وقال لي: شو مشكلتك؟!.. نظرتُ إليه ثم قلت لفيروز "أنا بحب أبنك زياد"، نظرت إلى فيروز أنا ابن التاسعة عشرة عاماً وسبعة آلاف حالة ارتجاف وخمسة آلاف لون ممتقع وريق ناشف وملايين الملايين من ضربات آلة مسكينة تدعى القلب وقالت لي.. نعم.. قالت لي أنا لقمان ديركي ابن حسين وشاهي مواليد الدرباسية في 1/1/1966 ليلة رأس السنة في الساعة الثانية عشرة وثلاث دقائق.. نعم.. أنا هو الذي قالت له "وهو كمان بيحبك"، نظرتُ إلى العميد بفخر واعتزاز فوجدته في تلك اللحظة يحترمني جداً جداً..

نظر العميد إلى فيروز ثم قال لي بحنان، "شو القصة يا ابني"؟.. قلت له بأن صديقي سجين عندهم وهو لن يخرج إلا بأمر منه شخصياً وأنه وعدنا بإخراجه بعد انتهاء الحفل وأننا ممثلون ولدينا تصوير فيلم سينمائي في تدمر وأضفت بأنني شاعر أيضاً، قلت كل ذلك وأنا أنظر إلى فيروز، قالت لي فيروز.. نعم.. مرة ثانية قالت لي شخصياً "وليش محبوس" حاولت الإجابة ولكن سيادة العميد سبقني وقال لها باعتزاز شديد مبتسماً ومشيراً إلى نفسه "ضربني بقنينة المي على راسي"، نظرت فيروز إلي مستفسرة ومستنكرة ما حدث فخفضت نظري واعترفت لها بالذنب العظيم "أي مظبوط.. ضربه على راسه بالقنينة"، خاف العميد أن تزعل فيروز فقال لها "كانوا عم يلعبوا .. يعني مزح ست الكل"، نظرت فيروز إلي معاتبة وقالت لي بمزاح محبب بل وكادت أن تقرصني من خدي "أي بيستاهل.. لازم ينحبس.. معقول في حدا بيضرب الناس بالقناني بحفلتي"؟... ضحك الحاضرين جميعاً واكتشفتُ لحظتها أن أنظارهم وأسماعهم مشدودة إلى حديثنا بينما كان العميد يؤكد لهم بفخر شديد بأن العبوة وقعت على رأسه هو شخصياً. استغل العميد الحادثة كي يطيل المحادثة مع فيروز وقال لها "ست الكل.. أنا سامحته كرمالك .. وإذا بتسامحيه سيادتك رح بطلعه من الحبس"، نظرتُ إلى فيروز بتضرع كي تسامح أحمد.. استنجدت بعثمان فوجدته يمد يده إلى الطعام ويأكل ما تيسر منه.. بل وشاهدته يسرق حبتي أناناس ويضعهما في حقيبته الثقافية، تابعتُ نظرات التضرع ثم قلت لها.. لفيروز طبعاً.. "حضرتكم بتعرفوا أنوا أنا بحبو لزياد".. وفكرت .. طالما أنني أحب زياد فإنها ستعتبرني مثقفاً وبالتالي فإنها ستعتبر الحالة كلها لعب بلعب كما قال لها الضحية نفسه.. سيادة العميد..

نظرت إلي فيروز وقالت "خلص.. سامحته" ثم قالت للعميد "طلعوه".. انتفض العميد وأعتقدُ أنه ألقى تحية عسكرية لها وقال "حاضر سيدي" ثم قال للملازم "طلعوه" فألقى الملازم بدوره تحية عسكرية للعميد وقال "حاضر سيدي" وقال لي "يا الله أمشي معي" .. لم أمشي بقيت واقفاً، نظرت إلي فيروز مبتسمة وسعيدة بعد أن انتهت المشكلة وفجأة هجمت على يدها وقبلتها ووضعتها على رأسي ثم مضيت خلف الملازم ولمحت في غمرة سعادتي الخرافية عثمان وهو يأخذ صدر دجاجة على الماشي ويركض خلف الملازم.

كانت الساحة في الخارج خاوية تماماً إلا من باصنا المنتظر، وكان الأسير قد تحرر وهو يمشي بجانبي، صعدنا إلى الباص، وانطلق باصنا من جديد، جلس الجميع يستمعون إلى مغامرة أحمد في الأسر في سجون العدو الغاشم وهم يحيون صموده بينما كان عثمان يحاول أن يعرف كيف تؤكل حبات الأناناس دون جدوى، بينما كنت أفكر أنني قابلت الأميرة.. تحدثت مع الملكة.. بل إنها حدثتني أيضاً.. بل ابتسمت لي.. بل ضحكت لي.. كنتُ أنظر إلى الوجوه المرحة في الباص وأقول في نفسي.. "يا إلهي.. إنهم لا يعرفون من أنا.. لو عرفوا.. ماذا كانوا سيفعلون"؟.. نعم.. أنا هو.. بذاته.. من قابل الملكة.. بل وقبًّل يدها أيضاً.. نعم.. سأنجب الكثير من الأطفال.. فقط لأقول لهم أن والدهم فعل ذلك في ليلة خريفية من ليالي عام 1985.


 أرسل/ ي  هذه الصفحة إلى الأصدقاء

 
 
 
 

 


عودة للأولى

عودة لصفحة الأدب