الآراء المنشورة في هذه المجلة لا تعبر بالضرورة عن حقائق نهائية. لذا تتعهد الإدارة بنشر  ما يردها من القراء حولها

كانون أول/ ديسمبر  2009

   

الزيارة الأخيرة..!

 ربا الحمود

   
 
 
 

(من سلسلة بوح الياسمين)

 

هل كان على زيارتي لك ان تكون باردة إلى هذا الحد حتى لا أفكر قط بأن أعاود الكرّة..!  أكثر من عشر سنوات مضت.. وها أنا أعود واكرر ما قلته بالأمس..

لن أعود لزيارتك مرة أخرى..!

فأنت كما تركتك منذ سنوات.. باردة.. قاسية.. احتويت صقيعا يضاهي صقيع شتائك وبرودة أحجارك..

انه نفس الإحساس كما زرتك أول مرة وأنا لا اعرف  ماذا يخبيء لي القدر بين طيات أيامك..

شعور لازمني طوال سنوات قضيتها وحيدة ضاقت به أحاسيسي

برودة وقسوة وحزن وصمت طويل..

وها أنا الآن.. أعود بعد كل هذه السنوات وأفكر بأني وبعد تحللي من جبروتك وطغيانك سأراك بوجه آخر لابد..

ربما سيتهيأ لي أخيرا, بان أحجارك تشكل فنا معماريا مميزا

وان صمتك هو جزء لا يتجزأ من جمالك وجبروتك

كامرأة مميزة.. لكن بشخصية دكتاتورية

وتلك الشوارع ستمنحني أملأ وتفاؤلا.. وحتى هذه الشمس التي أمشي تحت وهجها ستكون دافئة على غير عادتها..

لكنه نفس الإحساس..  نفس الهدوء.. وذلك الصمت الأثيم.. فقد كنت لوحدي برغم الصخب والضجيج وزحمة الشوارع والطلاب..

وقفت عند هذا الباب الذي وقفت سابقا أمامه لكن كطالبة تلهث وراء كتبها وأوراقها ومحاضراتها وأرقام قاعاتها..

الآن فقط أقف بكل ثقة.. ويلزمني  زهاء ربع ساعة من هذا البناء الضخم لزوم مساحة صغيرة بقلم اسود وآخر ازرق يخط به توقيعا..

وبعدها تكون لي الحرية المطلقة  في ان أعيد ترتيب ذاكرتي من جديد لهذه المدينة الصاخبة

" إذا سمحت"

بعدين..

" رجاء أنا لست طالبة"

ماذا تريدين؟

" توقيع من وكيل الجامعة"

عودي بعد ساعة...

" لكني من محافظة أخرى.. هل هناك طريقة للإسراع بالوقت؟؟"

بكل تجهم.. لم يكلف نفسه عناء النظر خارج دفتره الضخم.. لكن كان كما يبدو.. علي ان أتذوق مجددا بيروقراطية المكاتب

انسحبت بهدوء.. لأعود بعد ساعة..

وقررت في نفسي ان  استعيد بعضا من ذاكرتي في شوارع شقت طريقها في أيامي التي أمضيتها هنا بين كتبي وأصدقائي وخوفي ولهفتي وأحيانا خفقات حب..

كم تغيرت المعالم والوجوه والأماكن وحتى بعض الملامح التي اعتقدت أنها راسخة في الجامعة كمعّلم حاضر عليها.. اختفت بلا عودة, وبدون سبب معلن..

أشجار ضخمة ما عادت مكانها!!

مقاعد احتضنت سابقا المحبين على خشباتها, لم يعد لها وجود..

وبفضول أكبر صعدت إلى  أول غرفة سكنت بها في المدينة الجامعية وأثناء صعودي الدرج المؤدي لها بدا قلبي بالخفقان إلى أن كاد يتوقف من الخيبة!!

قرعت الباب لتفاجئني إحدى الفتيات بصوتها من بعيد..

"هذه الغرفة مغلقة منذ سنة للصيانة"؟؟

هذه الغرفة التي احتوتنا سنة لن تتكرر معي وربما لن تتكرر مع إحداهن أيضا

 فأن تحظى بفتيات رائعات تعارفن ضمن هذه الجدران التي كسونها بورق تلون بلون الحب والسعادة , لازلنّ حتى الآن من اعز الصديقات

لكنها.. مغلقة بكل بساطة..

وكأن مجلدا ضخما من الذكريات يرمى في حفرة للصرف الصحي

لم امكث دقائقا اكثر فرائحة سيئة كانت تنبعث من المكان

أسرعت بالهبوط , لأصاب بحرقة في حلقي استدعتني ان ادخل ندوة الجامعة لاحتسي بها القهوة ريثما تمر الساعة..

 وربما كنت أفكر بان استعيد نكهتها الخاصة مع زحمة الذكريات

أو ربما كنت أودع كل مكان هنا إلى غير عودة..

مضى الوقت بطيئا إلى ان عدت واستلمت أوراقي موقعة بعد ساعة كما وعدني تماما

وبقى التوقيع الآخر..

بقي توقيع العميد.. بالتأكيد لن امكث طويلا فإذا كان توقيع رئيس الجامعة استهلك ساعة من الوقت فلابد لهذا الأخير أن لا يستغرق فترة أكثر..

وكانت الساعة الثانية عشرة

سلمت أوراقي إلى الموظفة المختصة لتدخل الأوراق إلى العميد الذي لا يستقبل أحدا

وأخبرتني بأن عليّ  الانتظار لوقت غير محدد..!!

مضت الساعات بطيئة تارة أقف وتارة أتجول في أروقة الكلية وتارة أخرى اقرأ نموذجا للتصليح نموذجا لأسئلة الامتحانات, وأراوح مكاني جيئة وذهابا..

وأضيع  الوقت أحيانا أخرى بالثرثرة عبر الهاتف..

بعد ساعتين من الانتظار توددت إلى السكرتيرة بلهجة ناعمة طمعا بالخلاص..

" رجاء احتاج للتوقيع فأنا من محافظة أخرى وعلي العودة اليوم "

لتجيبني:

" كل شخص هنا أتى من محافظة أخرى ولكنك الوحيدة التي تتذمرين"

أصابتني الدهشة والغضب فقررت الصمت لأني شعرت باني أتسول سفري ومحافظتي وأوراقي

أتسول رغبتي بان أنتهي

وتحاشيت الغضب كيلا اخسر أوراقي نهائيا

ساعة أخرى مضت وجاوزت الساعة الثالثة ظهرا ليفرج العميد أخيرا عن بريده المسجون وأتلقى ورقتي الممهورة بختم ازرق وتوقيع لا يجاوز سنتيمتر

لأمكث لأجله ثلاثة ساعة ونيف!!

أطلقت لساقي العنان إلى طريق العودة  فلم اعد ارغب برؤية المزيد منك أيتها المدينة الباردة

كان سائق التاكسي يستمع إلى صوت مميز من تراث هذه المدينة, لكنها امتزجت في تلك اللحظة مع غصة.. وخيبة.. و..  !

الفراق هو الشيء الوحيد الذي لم يكن يعنيني ..

فانا لن أتوق لمدينة لم تهبني حتى آخر لحظة الا الإحساس بالغربة

خبأت في زيارتي لك الكثير من الحب.. الكثير من الشوق واللهفة لكل ذكرياتي .. أجمل ما نملك على الإطلاق (الذكريات)

وددت يومها لو أني أتحدث معك بصوت مسموع أخبرك عن أحلامي.. حياتي.. ومستقبل لازلت اطمح للوصول إليه.. أتقاسم معك لحظات من حنيني وأشياء اعجز عن البوح بها..

لكنها زوّادتي.. نفذت بسرعة وبدت أشعر بالاختناق حتى جلست في مقعدي  العائد إلى مدينتي .

-------------------------

--- عن موقع يارا صبري

 
 
 

أرسلوا هذه الصفحة للأصدقاء


عودة إلى صفحة الأدب

عودة إلى الصفحة  الرئيسية

حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ

مدن محظورة   2009      modon net