أيلول / سبتمبر  2008

 


من "غيبة المعصوم"

إلى "صدام السلفيات"

جلال شـري


 

لا تزال الطائفة الاسلامية الشيعية تشهد منذ عقود ثلاثة حراكاً لم تشهد له مثيلاً في تاريخها ما سبب تغيّرات بارزة في ايديولوجيا هذه الطائفة، وأكسبها سمات لا عهد لها بها من قبل. وقد يكون من المبكر الجزم ان كانت هذه التغيّرات، وهذه السمات بنيوية ام ظرفية. اذ ان معالم البنية الجديدة لم تظهر حتى الآن، في انتظار وصول هذا الحراك الى تموضع نهائي، يزيح الظرفي، ويكرس البنيوي.

ولا تفوتنا الاشارة الى ان هذا الحراك سُبق ببعض الارهاصات التي تمثلت بمقولات وحركات فكرية اقتصر تأثيرها على الجزئي، ولم يطاول الكلّي. وما لبثت هذه الارهاصات التغييرية أن تُوجت بنظرية "ولاية الفقيه"، التي مثّلت مفصلا نوعيا، وحركة انتقال كبرى في تاريخ الفكر الشيعي. وتتبيّن نوعية هذه النظرية اذا نظرنا الى العلاقة التي كانت سائدة، ولفترة جاوزت الالف عام، بين جناحي الامة الاسلامية:

الجناح السني، الحاكم ابداً، والمستند الى نظرية الشورى، والتي مثّلت حسب وجهة نظر هذا الجناح، سبيل ملء فراغ السلطة بعد وفاة النبي (ص)، والجناح الشيعي الذي مثل ابدا جناح المعارضة قبالة الحكم السني، مستندا في ذلك الى نظرية "ولاية المعصوم" التي مثلت، حسب وجهة نظر هذا الجناح، سبيل ملء فراغ السلطة بعد وفاة النبي (ص). فالأئمة المعصومون، من اهل البيت النبوي، هم خلفاء الرسول بنص من عند الله، وولايتهم امتداد لولايته، وزعامتهم امتداد لزعامته، على الصعيدين الزمني والديني.

كانت العلاقة بين هذين الجناحين للأمة علاقة قطيعة دائمة تلونت بألوان علاقة حكم ومعارضة، علاقة دولة وخروج عليها، فتكرست خلال تلك الفترة وما تلاها، من وفاة الامام الحادي عشر وغيبة الامام الثاني عشر، عند الشيعة مقولة عدم شرعية الدول الحاكمة، وحرمة قيام دولة قبل ظهور "المعصوم الغائب، المهدي المنتظر، صاحب العصر والزمان"، فكل راية قبل قيامه "راية ضلال" بحسب الحديث المشهور عندهم، فانفصل الشيعة عن جسم الأمة، وتقوقعوا في مجتمعات متناثرة على مساحة العالم الإسلامي، وتكونت هويتهم ولاوعيهم من خلال تلك المقولات، ما شكل لديهم قوة جذب عن جسم الأمة، من دون اغفال "قوة النبذ والاستبعاد" التي مثّلتها في المقابل مقولات وافعال الدولة الحاكمة المستندة في حكمها الى عقيدة اهل السنة والجماعة.

هذه الثنائية الجدلية، المؤلفة من عداء الشيعة للدولة، ورفض الدولة لهم في الآن نفسه، عملت على اخراج الشيعة من سياق التاريخ، ووضعتهم في حالة عداء مع الدولة والامة. وبما ان الناس على دين ملوكهم، وبما ان التاريخ يكتبه الحاكمون والمنتصرون، فان الشيعة وجدوا انفسهم بالتالي في حالة عداء "مع الدين" اي مع المذهب الحاكم الذي بات يعرف بأنه "الاسلام"، وما عداه من مذاهب خارج عن الدين. وقد بذل علماء الشيعة ومفكروهم جهدا كبيرا استغرق منهم وقتا طويلا كي يزيلوا عن انفسهم ما وصموا به، ويثبتوا انهم مسلمون يملكون مذهبا فقهيا خاصا، ونظرية فكرية معينة.

استمرت هذه الحالة الستاتيكية، والعلاقة الجدلية فترة طويلة حتى جاءت نظرية "ولاية الفقيه" والتي كادت تتطابق مع مقولة الشورى السنية، فكان مأمولا منها نزع ما تكرس، وفتح الباب عريضا امام احتمالات تحقيق التقارب والوحدة بين جناحي العالم الاسلامي، اللذين اصبحا يتبنيان مقولة "الشورى عند غياب المعصوم"، سواء كان نبيا ام اماما. وصار الواقع امام احتمال شورى جامعة للجميع، وامكان قيام دولة واحدة ممثلة للفريقين.

لكن ارض الواقع كشفت عن سيناريو مخالف لهذا المأمول، اذ بدأ تصارع الهويات المذهبية يطفو على السطح منذ الأيام الأولى في عمر الدولة الشيعية التي طبّقت فيها ولاية الفقيه عمليا للمرة الاولى. فاندلعت الحرب العراقية – الايرانية، تحت مسميات شتّى، وخلفية طائفية نفخ في بوقها الكثيرون. فبقي ما تكرّس قائماً، وإن تغيّر ظاهر الصراع بعد ظهور دولة معاصرة ممثلة للمعارضة التاريخية.

ولم تمضِ سنوات على وضع الحرب سالفة الذكر أوزارها حتى بدأت حرب من نوع آخر، ولكن هذه المرة داخل الطائفة الشيعية نفسها حين شن الجناح السلفي المحافظ حرباً شعواء على جناح الانفتاح والتجديد الداعي الى الاندماج والوحدة مع الأمة. وإن كانت هذه الحرب اندلعت، وكما أراد لها الفريق الاول، تحت عنوان "التصدي للانحرافات والضلالات" التي زعم هذا الفريق وجودها في المقولات الفكرية للعلامة محمد حسين فضل الله، الاّ أنها سرعان ما توسعت وطاولت شراراتها رموزاً أخرى مماثلة، مثل: محمد باقر الصدر، محمد جواد مغنية، محمد مهدي شمس الدين، هاشم معروف الحسني... وغيرهم. وكان أحد الاسلحة في هذه الحرب اصدار الفريق الاول سلسلة من الفتاوى والاحكام اعتبرت بعضاً من هذه الرموز خارجاً عن المذهب، ومتأثراً بالتسنن الذي غدا تهمة ووصمة. ومالت موازين القوة لصالح التيار السلفي الشيعي.

وكان مركز الاهتمام في الحرب على آية الله فضل الله ما يعتبره المحافظون محطة بارزة في تاريخ التشيّع. ويعنون بذلك الحوادث التي شهدها العالم الاسلامي بُعيد وفاة الرسول (ص). إذ يرى هذا الفريق أن هذه الحوادث أسفرت عن مداهمة بيت الإمام علي (ع)، والاعتداء بالضرب على زوجته السيدة فاطمة الزهراء (ع)، ما تسبب في وفاتها. وعمل هذا الفريق، بما له من ثقل على تعويم إحياء مناسبة "الايام الفاطمية" التي شهدت "مقتل وشهادة" السيدة الزهراء، بحسب مصطلحات الثقافة التي عمل عدد من مراكز القرار والقوة على اشاعتها في الاوساط الشيعية. حتى غدا استعمال كلمات مثل: وفاة أو موت السيدة الزهراء عبارات مستنكرة تفتح باب تهم شتّى على من ينطق بها.

وكادت هذه المناسبة في بعض الاماكن أن تتحول الى مناسبة تضاهي مناسبة عاشوراء. مع فارق أن حادثة كربلاء، التي أدت الى شهادة الإمام الحسين إنما قامت بها مجموعة تقع في مرتبة متدنية من هرم التقديس والاهتمام عند أهل السنة، وبالتالي فإن التعرّض لها لا يقابل بردود فعل قوية من المجتمع الاسلامي السنّي، بل على العكس إذ نجد قطاعات كبيرة من هذا المجتمع تقف في "صف الحسين" قبالة "صف يزيد"، إن صح التعبير. أما "الايام الفاطمية" فهي مناسبة أدت الى مقتل والدة الإمام الحسين، زوجة الإمام علي، الابنة الوحيدة لرسول الله (ص)، سيدة نساء العالمين (ع)... وذلك بحسب المصطلحات المستخدمة في خطب إحياء "الايام الفاطمية". وبالتالي فإن هذا الإحياء يطاول قمة الهرم في الاهتمام السني، وتوجّه فيه سهام الاتهام نحو افضل الخلق بعد الرسول، أي كبار الصحابة، بحسب التصور السني. ما يؤجج معادلة "الفعل ورد الفعل" في الميدان الطائفي، ويؤلّب كل طرف في مواجهة الآخر.

وتشاء الصدفة التاريخية أن تتزامن هذه "الحرب" مع زلزالي الثورة التكنولوجية المعلوماتية، وظاهرة العولمة وما نتج عنهما من تعزيز للهويات الاتنية والتعصّب لها، ومن نكوص نحو الميثولوجيات والافكار المخزونة في اللاوعي الجماعي كأواليات وتقنيات دفاعية في وجه "وحش العولمة" المنقضّ على هذه الهويات لافتراسها، وإحلال هويته الثقافية الحضارية مكانها. وكانت التقنيات الرقمية وشبكة الانترنت والاتصالات الدولية خير وسيلة في هذا الصراع المحتدم فظهرت "الذاكرة الالكترونية" الجامعة بين أتباع الاتنية الواحدة مهما تباعدت المسافات الجغرافية بينهم.

وبناء عليه، شهدت الهوية "الشيعية" طفرة غير مسبوقة في تاريخها، ودخلت ذاكرتها الحيّز الرقمي عبر عدد كبير من المواقع على شبكة الانترنت، وعدد من المحطات الفضائية والتلفزيونية. وتحولت "ولاية الفقيه" الى سلطة عابرة للحدود السياسية التقليدية بحيث أحكمت سيطرتها، أو تكاد، على الاقليات الشيعية المنتشرة في العديد من بلدان العالم الاسلامي ذي الاغلبية السنية. فتمايز الشيعة عن بحرهم الحاضن، وتفلتوا من سيطرة دولهم عوض الاندماج في محيطهم ومجتمعاتهم والخضوع للسلطة السياسية القائمة، والقوانين المعمول بها.

في المقابل، فإن المحيط السني لم يكن بعيداً عن تأثيرات العولمة والثورة الالكترونية، إذ نكص هو ايضاً الى تاريخه ولاوعيه وميثولوجيته معززاً هويته، مؤمّناً دفعاً غير مسبوق لسلفيته وأصوليته التي كانت قد سبقت مثيلتها الشيعية بأشواط تاريخية. وتقدمت هاتان السلفيتان لتصبحا اللاعب الأبرز على الساحة الاسلامية، وتضعا العالم الاسلامي على سكة "صدام السلفيات" لتكون تماهياً محلياً بمقولة "صدام الحضارات" الغربية.

وبلغت قمة الخطورة في هذا الصراع مع ظهور "النرجسية التغايرية" عند كل واحدة من هاتين السلفيتين بحيث باتت كل واحدة منهما تبحث في ماضيها وعقيدتها عمّا يؤمن لها التغاير والتمايز عن الآخر، حتى اللحظة التي ترى فيها الكمال في نفسها فتقع في النرجسية وتعشق ذاتها. وباتت كل واحدة منهما تبحث في ماضي الاخرى وعقيدتها وما تنشره على الانترنت لتبيّن مثالبها حتى تبلغ لحظة ترى المساوئ كلها في الاخرى فترذلها وتؤبلسها. وما نرى من تكفير وإهدار دماء وانتهاك متبادل لمقدسات كل فريق ما هو الا واحدة من تداعيات هذه النرجسية وتقديس الذات، وأبلسة الآخر.

وأمام هذا الواقع فإن المستقبل ينفتح أمامنا على احتمالات وتساؤلات كثيرة: هل يستمر تصاعد نجم الشيعة، ويتحقق ما سمي بـ"الهلال الشيعي"، أم يتم القضاء على هذا المشروع المزعوم، ويأفل هذا النجم؟ هل يتعمم النموذج العراقي، أم يبقى حالة وحيدة نستذكرها بأسى، غير آسفين على مضيّها الى غير رجعة؟ هل يتحقق "الطلاق" النهائي بين جناحَي الأمة عوض الوحدة فيتحوّل العالم الاسلامي الى "عالمين"؟ أم يصبح هذا العالم على صورة "هلال شيعي ضمن القمر السني"، بحسب مقولة الرئيس نبيه بري؟ هل تخبو النرجسية التغايرية، أم انها ستوصل صدام السلفيات الى الهاوية التي لا رجوع منها؟

إن المعطيات الظاهرة في المشهد الحالي، وعلى ضوء التجارب السابقة، تُنبئ أن الاحتمالات السلبية، اي احتمالات التصعيد والصدام، هي الأقرب الى التحقق. فالطبيعة البشرية تبقى هي ذاتها: فنفس القوي تتوجس خيفة، وتتأجج حسداً، ضد من يقوى بعد ضعف، ويعود الى فرض نفسه بعد الاستبعاد. ونفس الضعيف تتوق عادة الى التعويض والانتقام من القوي الذي استبعده واستضعفه، فيما سلف. وتتعزز فرضية الاحتمالات السلبية عندما نسترجع بعض الذكريات والتجارب التي لم يمر عليها الزمن، حيث نجد أحد جناحَي الأمة يغضّ الطرف عن عدوان خارجي يستهدف الجناح الآخر، ويقف منه موقف المتفرج، أو المؤيد والمساند أحياناً، ويجد فيه آمالاً بإضعاف الطرف الآخر كي يحقق هو أهدافه! ولنا في احتلال العراق، والعدوان الصهيوني على لبنان مثالان على هذه الآفة!

... قد تكون هذه القراءة الموغلة في التشاؤم جرس انذار يوقظ العقول، ويحرّك العقلاء كي يتداركوا الاخطار، وينقلوا سير الحوادث الى سكة أخرى، كي لا يبقى حال هذه الأمة ماضياً أبداً في زمن تكراري دائري يعيد نفسه منذ مئات السنين، ويسود فيه الميثولوجي على السوسيولوجي. وتحركه مقولات على شاكلة: الموتى يحكمون الاحياء.

 


 
   

شارك برأيك في هذا الموضوع

 

 
 

 

 
 

معالم البنية الجديدة لم تظهر حتى الآن، في انتظار وصول هذا الحراك الى تموضع نهائي، يزيح الظرفي، ويكرس البنيوي.

 

 

 

 

 

 

يعتقد الجناح الشيعي إن الأئمة المعصومين، من اهل البيت النبوي، هم خلفاء الرسول بنص من عند الله، وولايتهم امتداد لولايته، وزعامتهم امتداد لزعامته، على الصعيدين الزمني والديني.

 

 

 

 

 نظرية "ولاية الفقيه"  كادت تتطابق مع مقولة الشورى السنية

 

 

 

 

 

 

شن الجناح السلفي المحافظ حرباً شعواء على جناح الانفتاح والتجديد الداعي الى الاندماج والوحدة مع الأمة.

 

 

 

 

 

كادت مناسبة "الأيام الفاطمية"  التي تحيي ذكرى السيدة فاطمة الزهراء أن تتحول عند البعض  إلى مناسبة تضاهي مناسبة عاشوراء.

 

 

 

 

 

شهدت الهوية "الشيعية" طفرة غير مسبوقة في تاريخها، ودخلت ذاكرتها الحيّز الرقمي عبر عدد كبير من المواقع على شبكة الانترنت، وعدد من المحطات الفضائية والتلفزيونية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 باتت كل واحدة من هتين  السلفيتين تبحث في ماضيها وعقيدتها عمّا يؤمن لها التغاير والتمايز عن الآخر.

 

 

 

 

 

 

وجدنا أحد جناحَي الأمة يغضّ الطرف عن عدوان خارجي يستهدف الجناح الآخر، ويقف منه موقف المتفرج، أو المؤيد والمساند أحياناً