حزيران/ يونيو  2009

  الآراء المنشورة في هذه المجلة لا تعبر بالضرورة عن حقائق نهائية. لذا تتعهد الإدارة بنشر  ما يردها من القراء حولها    
   

عبد الأمير الركابي

بنية العراق التاريخية

وضرورة الانتقال إلى "مجتمع الـ لا دولة"


 

تحتاج بعض المصطلحات الواردة هنا الى مزيد من الشروح لا يمكن توفيرها من دون الاحالة الى كتابات لنا اوسع سبق ان نشرت، وبالذات كتابنا (ارضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ / مؤسسة الانتشار العربي / بيروت /460 صفحة/2008)، اما هنا فاننا سنلجأ الى اقصى قدر من الوضوح ضمن شرط التركيز الاستثنائي اللازم بحكم المقام. والمقال الحالي موضوع اصلا لاجل تقريب علاقة بعض الخواص البنيوية في الكيان العراقي، مع فعل الشروط المحيطة، او العالمية التي اتصل بها هذا الكيان او تعرض لها باعتباره مركزا امبراطوريا، او محل اهتمام امبراطوري في الماضي والحاضر.

وثمة في مسار تاريخ العراق، دورات ثلاث، نشأت عن، او تسببت في، عدم انتظام تاريخه الطويل. نحن نردد حين نتحدث عن العراق، مقولات من شاكلة "تاريخ العراق على مدى سبعة آلاف عام" وهذا الكلام افتراضي وغير دقيق، وهو قد ينطبق الى حد ما على التاريخ المصري، لكنه لا ينطبق على التاريخ المناظر له، او حتى الاسبق منه، العراقي. فالعراق عرف 1 ـ دورة اولى تأسيسية هي دورة العراق القديم؛ 2 ـ دورة ثانية تبدأ بعد الفتح الاسلامي وتنتهي عند انهيار بغداد على يد هولاكو 1258؛ 3 ـ دورة ثالثة هي الحالية التي يمكن العثور على بداياتها الفعلية عند القرن السابع عشر. بين هذه الدورات الثلاث هنالك فترتا غياب شبه تام، اذا حسبناهما سننتهي الى ان العراق قد غاب عن الوجود والفعل ككيان وموضع حضاري لمدة 1800 عام.

في الدورات الثلاث هنالك ثوابت، وهنالك متغيرات. أهم الثوابت هي:

-1 ان البلاد تنشأ وتتشكل من الأسفل، والدول تقوم في الأعلى، أكّاد شمال سومر، بابل فوق أكّاد وهكذا حسب الدورة الاولى. بغداد فوق الكوفة والبصرة كما حدث في الدورة الثانية. وفي العصر الحديث او الدورة الثالثة المعيشة، النجف كدولة مدينة مقدسة فوق سوق الشيوخ المدينة الدولة العشائرية، وعاصمة العراق الاولى في الطور الراهن، بغداد فوق النجف وسوق الشيوخ. لا وجود لدولة تحمل خصائص العراق التاريخية واصالتها، تنشأ في الاعلى او من الوسط.

-2 تقوم الدولة منفصلة اي كتشكيل سلالي عسكري متلاحم، يركب فوق المشاعات الزراعية المساواتية المحاربة (عادة داخل مدينة تكون محصنة تحصينا خاصا وتستعمل معسكرا للغزو واستحلاب الريع من المنتجين العاملين في الارض (في ارض السواد المصدر الأول للخصب والثروة.

-3 المجتمع المشاعي في الاسفل، لا ينتج دولة من داخله لانه "مجتمع لادولة" وقيام الدولة خارجه ومنفصلة عنه، لا يلغي "مجتمع اللادولة" ولا يستطيع اخضاعه، لاسباب تكوينية وطبيعية، وذلك بعكس ما يحدث في حالة المشاعات المصرية، او معظم التكوينات النهرية، فحالة العراق بين هذا النمط الذي يتميز بقوة الدولة المركزية، وقدرتها على ابتلاع المجتمع، معاكسة وتمثل الاستثناء عن القاعدة، فالمشاعات في العراق تظل محتفظة باستقلالها وتضامنها في وجه الدولة من اعلى، والتي هي بالطبيعة منفصلة ومركبة من خارج التفاعلات والديناميات الاجتماعية للمشاعات الزراعية، ومن دون قاعدة اجتماعية وانتاجية بنيوية او عضوية.

-4 هذا الوضع أوجد حالة كيان تتعايش فيه على مر الدورات التاريخية، "دولتان في كيان واحد موحد"، وهو امر لم يلاحظ من قبل، ولا اعترف به او اكتشفه علم الاجتماع الحديث، ولا الحركة الوطنية ونظرتها المعاصرة المستعارة من مفهوم الحداثة الغربي، الامر الذي كان له الأثر الاكبر في استمرار الفوضى والتشظي المفهومي على المستوى الوطني، وعلى مستوى فهم وادراك الذات الوطنية، ومن ثم في مجال وحدة النظرة اليها الى العالم، خاصة اليوم وبعد انهيار الدولة الحديثة.

-5 عانى التكوين العراقي وخصائصه، من قوة الافكار والمفاهيم المتصلة بانماط الحكم والسلطة المتعارف عليها في الماضي والحاضر، فالمفاهيم المكرسة عن الدول، وضرورة حيازتها حق السيطرة واحتكار العنف والحكم، تعد من البديهيات، او من ضرورات الحياة الاجتماعية في الماضي والحاضر، ولا يوجد في العالم مثل الاستثناء الذي يتميز به تكوين العراق، وهذا ما ابقى الاضطراب والتمرد مستمرين، كما ابقى الانطباعات والاقوال الشهيرة عن العراقيين وعصيانهم "وشقاقهم ونفاقهم". وهو مما كرره الحكام، ومثّل جانبا من ترسانتهم في الحالات الاستثنائية، او حالات الذروة والمنعطفات. فما ذكره الحجاج والي الخليفة الاموي عبدالملك، وصار شهيرا يعرفه القاصي والداني. كرره غيره، ومنهم حتى الإمام علي بن أبي طالب، مع انه عاد وأثنى على العراقيين، كما قال الملك فيصل الاول كلمات حرقة حرّى، منها ان العراقيين "سمّاعون للسوء ينعقون وراء كل ناعق"، وكتب صدام حسين مقالات في جريدة "الثورة"، تقطر حقدا وازدراء بالمنتفضين في الجنوب في آذار عام 1991، ومع ان الجاحظ قد انصف اهل العراق، وبحسه الديموقراطي المبكر، نسب عصيانهم على الحكام، الى نزعتهم المساواتية التي ترفض الاستبداد وفطنتهم التي تمنع الاتباع من دون فهم، الا ان فكرة التمرد والعصيان والنزعة الدموية ظلت هي الشائعة عن العراقيين.

لقد مرت بالفعل قرابة سبعة آلاف سنة، بينما العراق والعراقيون بحاجة لاماطة اللثام عن خصوصيتهم، قبل ادراكها، الا ان الواقع الذي منحته الحضارة على مستوى العالم ماضيا وحاضرا، في ما يتعلق بمفاهيم الدول والسياسة، لم يكن يسمح اطلاقا بالتوصل الى مثل هذا الانجاز، وظل موضوع خاصيات هذه البلاد مما لا يمكن افتكاره، لانه خارج نطاق الممكن الفكري على المستوى العالمي، وقد ظهرت في العصر الحديث لدى بعض الباحثين وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا، تشخيصات ذهبت الى حد الكلام على "مجتمعات اللادولة"، الا ان ما فعلته لم يرقَ الى مستوى البحث عن نمط تاريخي لاحق، او يمكن ان يكون لاحقا على انماط وصنوف الدول الحالية، والتي عرفت على مر التاريخ الحديث. ومما صعّب وأخّر المهمة والحالة هذه، وجعلها مستحيلة في الماضي، ان عناصرها والمعطيات والشواهد التي يمكن ان تستند اليها، وتساعد على اكتشافها، لا بد ان تكون عراقية، وبما ان العالم لم يسبق أن افتكر مثل هذا النمط الذي هو حالة العراق، فلا بد والحالة هذه من توجيه النظر الى العراق نفسه، وانتظاره الى ان يتمكن هو بالذات، من النطق بلسانه الذي ظل معقودا لعشرات القرون، يعيش حالة واقعية مضطربة، هي حقيقته التاريخية، ويسمع عن نفسه اوصافا وتحليلات وتسميات، لا تمت لعمق ما يعيشه ويتفاعل معه وينتجه، بصلة.

تحتاج الاحاطة بهذه القضية التاريخية غير العادية، مناسبات كثيرة من تناول الجوانب الجوهرية من تكوين العراق وخصائصه، كما الى زمن يستهلك في النقاشات وتوسيع ميادين البحث والتعمق، غير ان الجانب الأهم قبل الغوص في البحوث ومحاولات التعرف، أن نبادر للتأكد من ان مسالة ضرورات مثل هذا البحث وممكناته قد غدت متاحة ولازمة، وفي هذا السياق تخطر ببالنا ثلاث ملاحظات:

منها أولا ان ما نتحدث عنه ليس حالة تاريخ او مسار مغلق، او محكوم عليه ان يظل يدور دورانا بلا أفق ومن دون ان يتجسد يوما في انقلاب، كما ينبغي ان نصدق بأن هذه الخصوصية لها علاقة وطيدة وعضوية، بسيرورة التاريخ وتطور تحولاته الكبرى، كما بالمتغيرات التي تصيب الحضارة والتنظيم الاجتماعي، مثل ذلك الذي حدث لمفهوم الدولة وآلياتها في العصر الحديث الاوروبي، مع ظهور نموذج الدولة الامة الديموقراطي والمؤسسي، هذا الانقلاب الكبير هو من دون شك، وليد مقومات اصيلة وتاريخية موجودة داخل مكونات وخاصيات التاريخ الاوروبي، ولكن هنالك من يعتقدون بأن هذا النمط من الحكومات والدول والانظمة الاوروبية الحديثة، نهائي، او أنه شامل، ولا بد ان يكون صالحا لكل المعمورة، وان يصبح متبعا ومعتمدا من قبل العالم كله، ولا شك في ان من حق هؤلاء ان يقولوا ما يريدون، بما انهم لن يستطيعوا منع التاريخ من قول ما يراه وما يمثل في نهاية المطاف حقيقتة. ان أي نمط او شكل حكومة ودولة، لا بد أن يتم وعيه ويفتكر حصرا ضمن شروطه، فالاوربيون هم الذين وعوا وانتجوا مفاهيم التنوير والدولة، من داخل تجربتهم، وبناء على معطياتها ومساراتها، وحالة العراق هي أيضا، لا يمكن ان توعى الا بناء على التجربة العميقة والطويلة والمأسوية، التي عاشها العراقيون واختزنوها في العقل والوجدان، وهم والحالة هذه سيكونون الاجدر قطعا باكتشافها.

هذه نقطة اولى. والنقطة الثانية المهمة هي المتغير التاريخي الراهن والمستجد. ثمة ثوابت تحكم التكوين والخصائص العراقية، تركناها ولم نعددها سابقا، لانها متصلة اليوم بالمتغيرات التي طرأت على البنية العراقية في العصر الحديث، من تلك المتغيرات ان "الدولتين" داخل الكيان الواحد الموحد، كانتا دائما وخلال الدورتين الاولى والثانية، تتجسدان متباعدتين جغرافيا واجتماعيا، من دون تداخل، اي تظهران مستقلتين. فايام العباسيين، سادت دولة القرامطة ومجلس العقدانية، لاكثر من قرن في ارض السواد بوجود الدولة العباسية في الاعلى. وكانت هنالك قبل ذلك في الطور الحضاري الاول، منعزلات مستقلة، او متشكلة في نطاق مفهوم الدولة المقدسة والوعد /اريدو/، ولم تظهر سوى حالات قليلة اصبح فيها التداخل بين الدولتين واقعا، والصراع بينهما على حلبة واحدة، بينما تقوم معركة حياة او موت، ذلك حدث فقط في العصر الحالي، مع قيام "الدولة الحديثة" بعد عام 1920، واستمر لاكثر من 82 عاما، انتهت بانهيار الدولة من أعلى ومواجهة العراقيين لمعضلة استثنائية غير مسبوقة، لا بالنسبة لهم، ولا للمنطقة، ولا أيضا للعالم.

هذه الحالة من الاستثنائية الوطنية والعالمية، كان لا بد ان تنتج حالة استثنائية من الاضطراب والانفصال البديهي، بين الفكرة ومقتضيات الواقع. فالبلاد غدت على مشارف وضرورات الانتقال الى بناء "مجتمع اللادولة" التي انتصرت في نهاية المطاف على الدولة المنفصلة، بانهيار الاخيرة بفعل الغزو الاميركي، الا ان المجتمع لا يملك ما يجعله يدرك تلك الضرورة، والكل في العراق يفكر، إما من خلال المنظورات والمناهج الاوروبية المعاصرة، او بالترسانة التي تمنحها التجربة الخاصة والعربية الاسلامية من بداهات الحكم والدولة، وموقع الدين في السياسية اليوم.

لكن الافكار الضرورية والتي تحتاجها الحياة، تجد حكما محفّزاتها في الواقع، وفي حالتنا تبين ان المجتمع العراقي بذاته، ومن دون استعانة بأي تفسير من التفسيرات النظرية المعروفة والمتداولة، قرر الاعلان بوضوح عن "استقلاله". ففي الانتخابات المحلية التي عقدت بداية هذا العام، تصرف المجتمع ذاتيا بما يتعارض ويتصادم مع المفاهيم الشائعة وانكرها، وهذه الظاهرة لها محركات عميقة بالطبع، من أهمها ان المجتمع عبّر عن رفضه للفناء، الذي هو مصير حتمي، في حال الانسياق خلف مقترح القوى او الركام الميت، ظلت القوى السائدة والاحتلال تقترحه عليه كل يوم، ومع الوقت تتسع الهوة بين المجالين الفعلين، الحياة ونبضها من ناحية، والافكار المتراكمة من الماضي، والمتعارضة حد الموت مع الضرورات المطروحة على المجتمع.

قفز العراقيون قفزتهم الاولى نحو الابتكار الخارق الذي لم يتبلور بعد، اما ركام الافكار والمشاريع والمفاهيم الميتة والقاتلة، فقد اهتزبعنف للمرة الاولى، انظروا جيدا لما بعد، ففي تلك الانتخابات وما افصحت عنه من موقف المجتمع من الطائفيين الجزئيين، الفيديراليات، ودعاة المحاصصة والفساد، رأينا اضطراب هؤلاء المستمر حتى الآن، ومحاولاتهم المضحكة للتأقلم مع تبدل الريح.

الشيء الاكيد المطمئن، ان هؤلاء لن يستطيعوا فهم ما حدث وما سيحدث بالفعل، ولن يتمكنوا بيمينهم ويسارهم، بمتدينيهم ومدنييهم، من رؤية اتجاهات الحقيقة التاريخية الصاعده، متطلباتها الخلاقة، اصالة منظورها، وتحققها المنتظر، وعليه فان الضربة الاولى ستفعل مفعولها، ومع انها قد لتنتج فرزا واضحا اليوم، انتظروا الثانية، والثالثة. سننتظر ونرى، ليس انتظار المتابعين من بعيد، وهذه مقاربة اولى ستتبعها أخريات.

 

أرسلوا هذه الصفحة للأصدقاء

عودة إلى الصفحة  الرئيسية

عودة إلى صفحة المجتمع

   

حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ

مدن محظورة   2009      modon net

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

un compteur pour votre site