الآراء المنشورة في هذه المجلة لا تعبر بالضرورة عن حقائق نهائية. لذا تتعهد الإدارة بنشر  ما يردها من القراء حولها

تشرين أول/ أكتوبر  2009

   

على هامش كتاب: المتحولون دينيا

 دراسة في ظاهرة تغيير الديانة والمذهب

  هاشم صالح

   
 
 
 

نادراً ما يتعرّض أحد الباحثين لهذا الموضوع الشائك الذي يشكّل نوعا من التابو بالنسبة إلى ثقافتنا العربية. وأقصد موضوع تغيير الدين، وهو يتّخذ في اللغة الفقهية القديمة عنوانا مرعبا هو: الردّة. ومعلوم أنّ عقوبتها القتل طبقا لحديث مشهور، بقدر ما هو مشكوك في صحّته: من بدّل دينه فاقتلوه. وهو حديث يناقض كليا الحرية الدينية، أو حرية المعتقد والضمير التي نصت عليها الدساتير الحديثة وإعلانات حقوق الإنسان. بل إنّ تغيير الدين في العالم العربيّ، يتّخذ شكل الفضيحة، أو حتى الجريمة الشنعاء. وقد تنعكس سلبا لا على الشخص المعنيّ وحده، وإنما على أهله وذويه. وهذا لا ينطبق على الناس العاديين فقط، وإنما على كبار القوم أيضا. وأكبر دليل على ذلك ما حصل للملك فاروق بعد اعتناق أختيه للمسيحية؛ فقد شعر بالعار والشنار إلى حدّ أنّه مات مغموما مهموما كما يلمح إلى ذلك هاني نسيرة في الكتاب الشيّق الذي نستعرضه هنا. انظر الصفحة: 32 من الكتاب.

لقد قرأت كتاب هذا الباحث المصريّ الشابّ خلال سهرة واحدة، والسبب هو أنّ الموضوع هامّ بالنسبة لحركة التنوير العربيّ؛ فلا تنوير دون حرية دينية كاملة. وهذا ما ينصّ عليه المؤلّف أكثر من مرّة رغم ارتباطه بالإسلام، ولكنه إسلام مفهوم بشكل سمح ومتسامح على طريقة أساتذتنا الكبار كمحمد فريد وجدي، وأحمد زكي أبو شادي، وبقية النهضويين العرب. ولكن لا يمكن التوصل إلى هذه الحرية دفعة واحدة، من هنا الطابع المتعقّل والحذر لكتاب هاني نسيرة، فهو أبعد ما يكون عن المراهقة الفكرية في الوقت الذي يطرح فيه بعض الأفكار والإضاءات الجريئة. فالغرب لم يتوصّل إلى الحرية الدينية إلا بعد ثلاثة قرون من الصراع مع العقل الأصوليّ المسيحيّ راسخ الجذور.

منذ البداية يعلن المؤلف صراحة أنّه ضدّ الإكراه في الدين، رغم اعتزازه بدينه الإسلامي. ومنذ الصفحة الخامسة ينص على "الحقّ في حرية المعتقد كما أكدته القراءات المستنيرة في كل دين، والمواثيق الدولية والإنسانية، وحسبنا قول الله: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فالله هو وحده الكفيل بالحسم وبالحساب".

فهاني نسيرة ينطلق من مواقع الحداثة الفكرية في نظرته للدين، وليس من المواقع التقليدية، وإلا لفقد كتابه كلّ أهمية. ذلك أنّ الكتب التقليدية الوعظية المملّة تملأ الساحة، ولسنا بحاجة إلى كتاب تقليدي جديد. المهمّ تجديد المنظور والآفاق وطريقة المعالجة. وهو يفرّق بين ثلاثة أنواع من التحوّل الديني: فهناك التحوّل الكلّيّ، أي من دين إلى دين. وهناك التحوّل الجزئيّ، أي من مذهب إلى مذهب داخل نفس الدين الواحد، وهذا أسهل بطبيعة الحال، وأقلّ مشقّة على النفس لأنّ المرجعية لا تتغيّر كليا. فالكاثوليكيّ إذ يتحوّل بروتستانتيا أو العكس، يظلّ مسيحيا مرجعيته يسوع المسيح والإنجيل. والشيعيّ إذ يتحوّل سنّيا أو العكس، يظلّ مسلما مرجعيته محمد والقرآن.

ولكن لا أعرف لماذا دعا التحوّل من الإيمان الديني إلى اللادينية أو الإلحاد: بالتحول المضادّ؟ ألم يكن من الأفضل أن يقول: الخروج من الدين بكلّ بساطة؟ يضاف إلى ذلك أنّ هناك تحوّلا رابعا علمانيا لا إلحاديا، يجمع بين العلم والإيمان، وسوف أتعرّض له بعد قليل. ومعلوم أنّ معظم سكان الدول المتقدمة في الغرب هم من هذا النوع: أي خرجوا عمليا من المسيحية التقليدية ومن طقوسها وشعائرها وعقائدها، وأصبحت بالنسبة لهم مجرّد خلفية ثقافية أو ميتافيزيقية أو روحانية. وربما كانت الشعوب العربية والإسلامية، بل وكل شعوب الأرض، مرشّحة لأن تخرج من التدين التقليدي يوما ما، بعد أن تتطوّر فكريا وماديا ومعاشيا. وعندئذ سوف تصبح مسألة تغيير الدين قضية ثانوية لا تثير كلّ هذه الضجّة والفرقعة التي تثيرها الآن في مجتمعاتنا.

أتذكّر أنني عندما أتيت إلى فرنسا فوجئت كثيرا بأنهم يحترمون الموسيقار موريس بيجار رغم تحوّله إلى الإسلام، وخاصّة الإسلام الصوفي الذي أعجب به. ولم يؤثّر ذلك على سمعته ومستقبله ووظيفته على الإطلاق في مجتمع فرنسيّ لا يحبذ الإسلام عموما، فهم يعتبرون القضية مسألة شخصية لا تستحقّ التوقف عندها أكثر من اللزوم. إنّها تشبه تغيير الموقف السياسي كالانتقال من اليسار إلى اليمين أو العكس، بل إنّ تغيير الانتماء السياسي يبدو أخطر وأهمّ بالنسبة إليهم، ذلك أنّ الدين لم يعد العنصر الأساسيّ المشكل للهوية الفردية أو الجماعية. ولكنّ الأمر يختلف كليا بالنسبة للعالم العربي أو الإسلامي، فهنا تأخذ مسألة الدين أو المذهب كلّ أبعادها وخطورتها، إنها ليست مسألة شخصية ولا ثانوية وإنما أساسية جدّا لأنّ الدين يحتلّ مكانة ضخمة في حياتنا، عكس المجتمعات الأوروبية المعلمنة منذ زمن طويل. ومعلوم أنّ التحوّل إلى البوذية أصبح موضة في أوروبا والغرب كله كما يذكر هاني نسيرة، ومن أشهر معتنقيها الممثل الشهير ريتشارد جير، واعتناقه لها بعد تخليه عن المسيحية لم يسبّب له أية مشاكل في المجتمع الأميركي، بل العكس؛ فشعبيته أو شهرته لا تزال في أوجها. أمّا الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي فقد قال هذه العبارة الجميلة بعد اعتناقه للإسلام، والتي يذكرها المؤلّف أكثر من مرة: لقد ربحت محمّدا ولم أخسر المسيح!

فيما يخص التحوّلات الثلاثة التي ذكرها المؤلّف، يخيّل إلينا أنّ التحوّل الأوسع والأهمّ ليس ذلك الذي سينتقل بأناس العصور الحديثة من التدين التقليدي إلى اللادينية أو الإلحاد أو اللاأدرية، كردّ فعل على التعصّب والانغلاق التاريخيّ، وإنما هو ذلك الذي سينتقل بهم من الإيمان التقليدي القروسطي إلى الإيمان الحرّ الحديث: أي الإيمان بالله والقيم الروحية والأخلاقية العليا، ولكن دون الالتزام بالطقوس والشعائر المرهقة التي لم تعد تتماشى مع عقلية العصور الحديثة ومقتضيات الوظيفة والعمل اليومي والإنتاج. شخصياً أعتقد أن هذا التحوّل الواسع سيطرأ على معظم البشر كلّما تحسّنت ظروف معيشتهم وتغلغلت الحداثة العلمية والفلسفية في أوساطهم، كما حصل لشعوب أوروبا الغربية المتطورة. وهي شعوب خرجت عمليا من المسيحية في شرائحها الأوسع، ولكنها لم تخرج بالضرورة من الإيمان بالمعنى الجوهري للكلمة. وهنا ينبغي التفريق بين الإلحاد والإيمان الحديث، ذلك أنّ العلمانية ليست الإلحاد وإنّما حرية الضمير والمعتقد، فالكثير من العلمانيين مؤمنون، ولكن بالمعنى الليبراليّ الحديث للكلمة لا بالمعنى القروسطي المتعصّب. من هنا التفريق في أوروبا والغرب كلّه بين المسيحيين الليبراليين، والمسيحيين المتزمّتين أو المتشدّدين، فالأوّلون يوفّقون بين العلم والإيمان عن طريق معادلة جديدة مستنيرة، في حين أنّ التالين لا يستطيعون ذلك، لأنهم يكرهون العلم والعقل ويؤمنون بشكل أعمى منغلق على نفسه وكاره لكلّ الاعتقادات الأخرى. هذا لا يعني بالطبع أنّ الإلحاد ممنوع، فهو أحد الحلول المطروحة في الحضارة الغربية ولكنه ليس كلّ الحلول. وعموما فإنّ الإلحاد الفلسفيّ لا يعني إطلاقا الخروج على الأخلاق والقيم العليا. فملاحدة أوروبا من أكثر الناس حرصا على النظام والقانون وسعادة المجتمع واحترام الكرامة البشرية. وبالتالي فحتى الإلحاد هنا مؤمن بشكل من الأشكال: إنّه مؤمن بقيم عليا ولكن فلسفية.

يسرد هاني بعض الذكريات الشخصية التي قد تكون هي ذكرياتنا جميعا قبل أن يقول مدينا التعصب الأعمى:

الفضيلة بتعصّب صاحبها وعدم رؤية فضيلة سواها تصير رذيلة… حين أكون مقدسا والآخرين مدنسين فلا شك أن في رؤيتي للقداسة عيبا وثقبا كبيرا، فيها بداوة وجهالة من يرى عنصره أفضل من عناصر الآخرين، وقبيلته أفضل من قبائلهم، ولونه أفضل من لونهم، أو طبقته أفضل من طبقتهم. نعم يمكن اعتبارهم على الخطأ ولكن تكون معالجة الخطأ بالحوار وليس بالقتل والحرمان.. بمثل هذا المنطق كان قتال الطوائف وكان فساد الأمم.(صفحة.89)

وهذا ما يحصل حاليا في مناطق شتى من العالم العربي والإسلامي من اليمن إلى العراق إلى أفغانستان والباكستان والحبل على الجرار.. فمادام المفهوم المتعصب والضيق للدين أو المذهب هو السائد فلا حل ولا خلاص ولا وحدة وطنية وإنما مذابح وحروب أهلية. وأوروبا لم تتخلص من حروبها المذهبية الطاحنة بين الكاثوليك والبروتستانت إلا بعد أن فككت المفهوم القروسطي الظلامي للدين المسيحي وأحلت محله المفهوم الحديث المستنير والنظام العلماني التعددي.

ثم يردف المؤلف مبديا إعجابه بالتجربة الغربية الحديثة:

ولم تكن الحداثة الغربية في عمق تأثيرها سوى إعادة الاعتبار للإنسان كانسان والفرد كفرد واختياره كاختيار حر مسؤول بغض النظر عن دينه أو لونه أو عنصره. وهو ما مكّن لحقّ الاختلاف والاعتراف، ومكّن كذلك للسلم الاجتماعي والإبداع الفكري والعلمي، بعيدا عن وصاية أحد، أيّ أحد..

وعلينا أن نقدّر دور المؤسّسة الدينية في الغرب التي يرأسها متكلّمون ومتفلسفة، لا فقهاء كما هو شأن المؤسّسة الدينية في العالم الإسلامي، ممّا كفل لها القدرة على التكيّف مع الحداثة الغربية والاستجابة لحاجات الناس، وهو ما مثّل كذلك سبيلها للحياة مع العصر ومع الحداثة، بل والتفوّق كثيرا في دورها وامتدادها في الآن نفسه؛ حين امتلكت الشجاعة على أن تبرّئ غاليليو وأن تعيد له اعتباره بعد قرون، كما أعادت الاعتبار لداروين وتبرّأت من كثير ممّا كان سائدا وثابتا في تصوّرات آبائها السابقين..(ص.89-90)

صحيح. وأنا أقول مضيفا إلى كلام هاني نسيرة: نتمنّى أن يجيء اليوم الذي نتبرّأ فيه نحن أيضا من الكثير من فقه القرون الوسطى وفتاواها التي لم تعد مناسبة لهذا العصر، كقتل المرتدّ مثلا أو تكفير الأديان الأخرى، أو حتى الفرق الإسلامية الأخرى على طريقة حديث الفرقة الناجية، والنظرة السلبية إلى المرأة، والتضييق على الحريات الفردية من خلال تطبيق الحدود القديمة كحدّ الجلد لشارب الخمرة، أو حدّ الرجم، أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف الخ.. نحن أيضا بحاجة إلى أن نعيد النظر فيما كان سائدا أو ثابتا على مدار العصور. الكنيسة الكاثوليكية ابتدأت تكنس أمام بيتها وتعتذر عما فعلته إبان محاكم التفتيش والمجازر المذهبية ضدّ الأقلية البروتستانتية وكذلك ضدّ العلماء والمفكّرين. لقد ابتدأت تنتقد نفسها وتتراجع عن أخطائها، والتراجع عن الخطأ فضيلة. ولهذا السبب اكتسب البابوات احتراما في السنوات الأخيرة عكس ما كانوا يشهدونه سابقا. نعم لقد آن الأوان لكي ننتقل من فقه القرون الوسطى إلى فقه الحداثة والتسامح والحرية.

وهنا يخبرنا هاني نسيرة بحصول بعض التطورات الإيجابية وسط الظلام الحالك الذي نعيشه. فهو يقول لنا بأنّ الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية، وهو من الشيوخ المستنيرين العقلاء، صرح لجريدة الواشنطن بوست سنة 2007 بجواز تغيير الديانة انطلاقا من الحرية الدينية وعدم إقامة حدّ الردة ما لم يهدّد النظام العامّ، وهو ما قيل إنّه تراجع عنه بعد ذلك. (الكتاب. صفحة.16)

ولكن حتى لو تراجع عن هذا التصريح "المتهوّر" في الظروف الحالية نتيجة ضغط الشارع وتأليب السلفيين، فإنّه يكفيه فخرا أنّه تجرّأ عليه ولو لمرّة واحدة. وعلى أيّ حال فإنّ هذا الموضوع سابق لأوانه في رأيي، لأنّ الرأي العام الإسلامي غير مهيأ لقبوله على الإطلاق. والدليل على ذلك ما يقوله هاني عن تعصب العامة قديما وحديثا. يقول موضحا:

غير أنّ العوامّ في كلّ دين- الجماهير- هم أبسط الناس فهما له، إلا أنّه كثيرا ما يكونون أكثرهم تعصّبا وتطرّفا فيه. فالعامي ملتحم بالمؤتلف ولا يطيق التعايش مع المختلف(ص.75).

وهذا صحيح، فكثيرا ما عانى المفكّرون من ضغط العامّة في المجتمع العربي الإسلامي ماضيا وحاضرا. ولكنّ العوام، أي الجماهير، إذا تم تثقيفها وتهذيبها ورفع مستوى حياتها لا تعود عامّة جاهلة أو غوغاء دهماء. انظر ما حصل في المجتمعات المتقدمة من أوروبا الغربية حيث انتشر التعليم والتنوير والتثقيف، حتى شمل كل شرائح المجتمع حتى في الأرياف النائية وقمم الجبال. وعندئذ تضيق الهوّة بين النخبة المستنيرة وعامّة الشعب.

وهنا نلتقي بعبارة جميلة لأحد كبار التنويريين الفرنسيين يستشهد بها هاني نسيرة في الصفحة 92 وتقول:

الحداثة تعتبر العلم دينا جديدا يجبّ ما قبله من دين، كما كان يقول فيكتور هيغو.

نعم لقد ظهرت الحداثة كردّ فعل على تعصّب الأصوليين المسيحيين في القرون الوسطى، وعلى قمعهم للمفكرين والعلماء ووقوفهم في وجه الاكتشافات الحديثة التي رأوا فيها بدعة ما بعدها بدعة. والحداثة العربية سوف تجيء أيضا ردَّ فعلٍ على الموجة السلفية الطاغية التي نعاني منها اليوم. ولكنّ الدين لن ينتهي بعد الحداثة على عكس ما ظنّ فيكتور هيغو وجيله إبان القرن التاسع عشر، فعلى أنقاض التدين القروسطي المتعصب والمنغلق ظهر تديّن ليبرالي متسامح منفتح في كلّ أنحاء أوروبا الغربية. وعلى أنقاض الإيمان القديم، الإيمان الذي يقتل، إيمان محاكم التفتيش والحروب الصليبية، ظهر إيمان جديد، حرّ، مستنير. ولكن في فورة انتصار العلم وتطبيقاته الصناعية والتكنولوجية، ظنّ المثقفون آنذاك أنّ الدين انتهى إلى غير رجعة. والواقع انه لم ينته ولكنه تحوّل وتطوّر وتغيّر. انظر ما يقوله العالم اللاهوتيّ الشهير هانز كونغ عن هذا الموضوع الخطير في ثلاثيته الكبرى عن اليهودية والمسيحية والإسلام، والتي ظهرت تباعا في السنوات الأخيرة. "نتمنى لو يترجمها أحدهم إلى العربية لكي يرى المثقفون حجم الثورات اللاهوتية التي طرأت على المسيحية الغربية منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم".

أخرا سوف أتوقّّف مع هاني نسيرة عند مقطع أخذه من زعيم الأصولية التونسية راشد الغنوشي (ص.51-52). وفيه يشيد بالعلمانية الديمقراطية في الغرب وإقرارها بحرية الاعتقاد والتعبير، وأنّها كانت وراء الوجود الأكبر للمسلمين في الغرب.. ممتاز. حسن جدّا. ولكن كنّا نتمنّى أن يشيد الأستاذ راشد الغنوشي بالعلمانية التنويرية في العالم العربي والإسلامي أيضا، وليس فقط في الغرب. كنا نتمنّى ألا يكيل بمكيالين أو بمعيارين. فالعلمانية جيّدة هنا، أي في الغرب، ولكنها مرفوضة هناك! لماذا؟ هل يقبل الغنوشي بأن تطبّق العلمانية التنويرية، أي حرية الضمير والمعتقد أو حرية التديّن أو عدم التديّن، في تونس أو سوريا أو مصر أو الجزائر.. الخ؟ هل يقبل بالمساواة بين الأديان والمذاهب في العالم العربيّ كما تفعل دول الغرب العلمانية؟ مستحيل. ينبغي الاعتراف بأنّ ذلك سابق لأوانه بالنسبة لنا، ولسنا مهيّئين له حتى الآن. ونحن لا نطالبه بما لا يطيق. ولكن يمكن أن نسير في هذا الاتّجاه بضع خطوات على الأقل. أو يمكن ألا نعرقله إذا ما سار فيه أحد القادة العرب. من الذي تجرّأ على تحدّي التقاليد الخانقة في المجتمع التونسي وأعطى المرأة حقوقها؟ هذا بالإضافة إلى بقية الإنجازات والحريات الأخرى التي تفتخر بها تونس، وبحقّ، على غيرها من البلدان العربية. أليس هو الحبيب بورقيبة؟ فلماذا لا يبدي الغنوشي إعجابه به أو ببعض إنجازاته العلمانية على الأقلّ؟ هل يقبل الغنوشي (وهو من الأصوليين المعتدلين نسبيا والمثقفين إلى حدّ ما)، بان تطبّّّّّّّق منهجية النقد التاريخي على التراث الإسلاميّ كلّه، كما طبّقت على المسيحية في الغرب؟ هل يقبل بوجود أديان أخرى في بلداننا غير الإسلام كما يقبلون هم بوجود الإسلام في بلدانهم؟ هل يقبل بوجود كنائس وصوامع عندنا كما يقبلون هم بوجود المساجد في باريس وبروكسيل وروما ومدريد.. الخ؟ هل يقبل بتحرّر الشباب المسلم من التديّن التقليديّ، بكلّ طقوسه وإكراهاته ومحظوراته المرهقة؟ هل يقبل بمناقشة العقائد الإسلامية الموروثة مناقشة تاريخية، علمية، فلسفية، كما يفعلون هم مع المسيحية، أم إنّه ينبغي أن نؤمن بها دون نقاش؟ هل يسمح للمسلمين المقيمين في الغرب بأن يتأثّروا بهذا الغرب بالذات، وأن يخرجوا من الإسلام السلفيّ الأصوليّ لكي يستطيعوا التعايش والاندماج مع مجتمعات مستنيرة متحرّرة من الأصولية المسيحية؟ إذا لم يفعل ذلك فهذا يعني أنّه معجب بالعلمانية فقط في بلدانها، ويحرص على ألا تنتقل "عدواها" إلى بلداننا! وهذه هي ثقافة الكيل بمكيالين التي يتبنّاها إخواننا الأصوليون. لماذا يعجبون بالحريات في بلدان الغرب العلمانية ويستفيدون منها، بل ويستغلّونها أحيانا لنشر فكر متعصّب مضادّ للعلمانية والتسامح، ولكنهم يرفضونها رفضا قاطعا بالنسبة للمجتمعات الإسلامية؟

أسئلة كثيرة يمكن طرحها في هذا السياق. والمهمّ في نهاية المطاف ليس تغيير هذا الشخص أو ذاك لدينه أو مذهبه واعتناقه لدين آخر؛ هذه قضايا فردية تظلّ محدودة الحجم والأهمية كما يقول هاني نسيرة. ولكنّ المهمّ هو انتقال العالم العربي الإسلامي كلّه من مرحلة التديّن القروسطي، القائم على الإكراه والقسر، إلى مرحلة التديّن الحديث القائم على الحرية الفردية وحقّ الاختيار. هذه القطيعة الأبستمولوجية الكبرى لم تحصل حتى الآن إلا في أوروبا الغربية. أمّا في العالم العربي فلا نزال نعيش في ظلّ الإكراه في الدين رغم أنّ القرآن الكريم نهى عنه بشكل صريح. ولا نزال نتخبّط في فقه القرون الوسطى التكفيريّ الذي يقتل المتحوّل دينيا بحكم الردّة، في حين أنّهم يتحدّثون عن لاهوت الحداثة بل وما بعد الحداثة!

 
 
 

أرسلوا هذه الصفحة للأصدقاء


عودة إلى صفحة المجتمع

عودة إلى الصفحة  الرئيسية

حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ

مدن محظورة   2009      modon net