كانون أول / ديسمبر 2009


  الآراء المنشورة في هذه المجلة لا تعبر بالضرورة عن حقائق نهائية. لذا تتعهد الإدارة بنشر  ما يردها من القراء حولها    
   

د. يوسف موسى سلامة 

تآكل الجسم القضائي بالفساد

اول مظاهر تآكل الدولة


 

  من مظاهر تآكل الجسم القضائي ان تنقلب معايير شهرة قاضي تحقيق، من إنجاز ما له على مستوىً وطني، إلى وقاحةٍ تبلغ منه مبلغاً يصل الى حد يطرح فيه على المُتقاضي أسئلة تتصل برشوته، لدى مستهل كل جلسة تلميحاً أو تصريحاً .

إنه وعلى الرغم من السيل العارم من الانتقادات التي يمكن ان نكيلها لجسم الدولة ، اي دولة كانت ولكن بنسب متفاوتة الى مدى بعيد ، يبقى ان للدولة مفهوم يتمثل بوجود ناظم ايقاع يضبط علاقات المواطنين الذين يعيشون في كنف سلطاتها ، وذلك عبر ايجاد منظومة علائقية مؤسساتية تجعل المواطنين يضبطون ايقاع تلك العلاقات بصيغة حاكمية سلطوية تأخذ مظاهر وأشكال مختلفة ، من تلك الصيغ العلائقية الحاكمية انبزغت منذ فجر التاريخ الصيغة القضائية كحاجة انسانية أوجدتها الضرورة التلقائية للوجود الانساني ، ومنذ فجر التاريخ راحت تلك المنظومة الحاكمية الانسانية التلقائية الصيرورة تتطور حتى باتت اليوم تبدو في الكثير من المساحات الجغرافية بأزهى حللها ، ويبدو جلياً أن تطورها يتناسب طردا مع تطور الدول والحضارات التي تحتضنها .

لا يمكن لأيٍ من العوامل أن تشكل خطراً على مفهوم الدولة كالذي يمكن أن يشكله استشراء الفساد في الجسم القضائي ، كالذي نشهده الآن في بلدنا سوريا " ولن نكون قوميين هنا لتهمنا بقية البلدان العربية " وبصورة فاقعة تدعو الى ما هو أكثر من الاستهجان، وما يدعوا الى الدهشة أن المكلفين بمتابعة شؤون القضاء، لايتبدى لهم أيٍ من أشكال الفاعلية في تحريك واقع المنظومة القضائية ولو خطوة الى أيّ إتجاه كان، فينحوا المسار الى حيث يقوده " قانون نيوتن القضائي السوري" الذي تحكمه معادلة فريدة طرفها الوحيد مصالح القضاة الخاصة وجشعهم ونهمهم للثروة.

لك أن تتصور عندما تفلت الأمور من عقالها ، وتغدو المصلحة والمصلحة فقط دون سواها هي من يحكم مزاج القاضي في تكوين رؤيته وقناعاته في إطلاق الأحكام ، مالذي سيحصل ؟ !..  أليس هناك تبعات كارثية ذات فعل تراكمي، إننا ندرك جميعا أنه حين نفتقد في كنف الدولة لمعظم مقوماتها لا يمكن لنقمتنا على الدولة في ظل الكثير مما نفتقده، أن تصل الى مدى يدفعنا الى الخروج عليها في إطار " مفهوم الرعية والراعي " ويعود ذلك لاننا يمكننا ان نلوذ بقضائها وضوابطها السلطوية بالرغم من غياب مقومات اخرى كثيرة ، كي ننظم علاقاتنا بين بعضنا البعض ونضمن حدا أدنى من حقوقنا لدى تداخلها بحكم التعايش الانساني مما يحقق كينونة الانسان ، ولكن في غياب المقوم القضائي ستغيب حكما تلك الكينونة الانسانية بما تمثله من سلطة ناظمة وضابطة لايقاع حقوقنا المتداخلة.

ان المشاهد التي نشهدها في حياتنا القضائية اليومية تستدعي منا اعلان النفير العام الوطني واستنفار كل طاقات الوطن لوقف هذا الانتهاك الصارخ لكل ما يتصل بكرامة وحق المواطن الذي استوظفه أصلاً لخدمته ، فبات منتهكا لحرمة حقوقه، متدثراً بدثار السلطة التي خولته إياها الدولة المتمثلة أصلا بالمجتمع وليس الممثلة له فحسب، ليعمل وباسم من خوله نهبا لعرق المواطن وجهده وحقه.  لم نبالغ في وصف قتامة وكارثية المشهد الذي لا يمكن لرسمٍ ما ان يبلغ واقع ما يحصل في جسم القضاء السوري، نسمع العجب حتى بتنا نتعاطى مع فساد القضاة بقبول وتسليم فغدا فساد القضاء ثقافة مجتمعية لانتقبلها فحسب بل نتعاطى معها كجزء من تركيبتنا المجتمعية ومن تاريخنا وثقافتنا حتى بات الحديث الصباحي اثناء شرب القهوة عن رشوة القاضي عبر وسيطه أو عبر المحامي يشبه الحديث عن أماكن نخبر عنها بعضنا لشراء جبنة جيدة النوعية او زعتر لذيذ المذاق ومن أي دكان نفضل شراء الحليب!..  لا غضاضة البتة في رشوة القاضي بل غالبا ما يجري الحديث عن المبلغ الذي قام بقبضه، وتباين القضاة يكمن في حرص بعضهم الزائد في تحصيل الرشى " على حساب حق ودم المواطن " عبر وسيط، والذي دائما ما تكون سريته البالغة غير ذات جدوى للتستر على سلوك القاضي المرتشي، كما يمكن أن نلمس تباينهم بمدى الجشع المفرط للبعض والقناعة النسبية للبعض الآخر.

نقولها وبالفم الملآن: صار  لزاما علينا أن ننبذ تلك الثقافة ونواجهها ونعري أبطالها من القضاة الذين يمثلون بممارساتهم تلك ابشع صور الانتهاكات الانسانية،  حتى انه لم يعد من الخلط الاصطلاحي تسميتها بجرائم ضد الانسانية .

أنّا  لنا ألاَّ نستشعر الاشمئزاز والنفور من جرائم ضد الانسانية لدى سماعنا عن قضاة يرتشون في كل قضية سواء كان الراشي محقوقا  او صاحب حق!..  لقد بلع الاشمئزاز مبلغا قل نظيره عندما أصبح قاضٍ أشهر من نار على علم في مدينة اللاذقية بعبارته التي اعتاد على إطلاقها أمام المواطن الماثل أمامه وهو على قوس المحكمة - كما يقال- قبل ان يعلن بدء  أي جلسة محاكمة: " هل قبض منك أحد باسمي أي مبلغا من المال ؟ "..  والكارثة ان ذاك القاض هو قاضٍ للتحقيق ويملك صلاحية التوقيف ! و قد علم معظم من مثل أمامه (ولك أن تخمن عديدهم ) أن اعتياده على اطلاق مثل تلك العبارات ليس إلاّ كناية عن استعداده للقبض الذي خبره معظمهم تبعا لحساسية وثقل القضية، وهو ما يحصل بحرص يدفع الحريص لإتمام العملية عبر وسيط يسمى مجازاً " بالقبّيض"، وقبيض معظم القضاة المرتشين عنوانه معروف وغالبا ما يكون من أرباب السوابق يعرفه محامو الموكلين .

لم يعد هناك لدى الفاسدين  والمفسدين من هؤلاء القضاة ما يمكن ان يتحفظوا عليه او يحسبون حسابه مادامت منظومة التعاطي مع المواطن مبنية على أساس نفـّع وانتفع،  وقد باتت بمثابة عقد تعاقد عليه الطرفان برضائهما ولكنه رضىً قهري من طرف المواطن صاحب الحق، بما انه يمكن لخصمه ان يستحصل على حقه المزعوم تحت ضغط قوة نفوذه، ان لم يقبل الآخر بشروط عقد النفعية المتبادل الذي صاغه القاضي المرتشي وفقا لرؤيته، وما يزيد الطين بِلّةً عندما يكون القاضي من الطراز الذي يعتمد الحكم لصالح من يدفع أكثر !

حرصا منا جميعا على سلامة الوطن والمواطن والدولة الحاضنة يجب علينا ان نستثمر جُلّ طاقاتنا على اختلاف مجالاتها من مقالات توعية تُنشر بغزارة في صحف حريصة مسؤولة وأخص بالذكر مواقع الصحافة الالكترونية التي يتسم بعضها غير القليل بجرأة الحرية المسؤولة والحريصة في توفير مساحات للتدليل على مكامن الفساد ومخاطره.  إنها وسيلة ناجعة نسبيا في تطعيم ثقافة الفساد المستشرية بلقاحٍ قد يقف في مواجهتها،  ليدلي بدلوه كل حريص على وطنه وأهله ويبني لبنته المتواضعة، وليقف القيمون على القضاء وعلى رأسهم وزير العدل ومعه مجلس القضاء والتفتيش القضائي والأقلام الحرة المسؤولة والصحافة عموما والالكترونية خصوصاً لما توفره من مساحات ارحب من الحرية، والانصات لصوت الشارع وأنين المواطن وشكواه. وذلك في إطار عملية سبر وتحرٍ ومراجعة وتقييم  لأداء أكثر منظومات الدولة حساسية وخطورة على الاطلاق بما تمثله من خطورة على حياته وحقوقه.

يتوجب على الجميع الوقوف أمام أمام مسؤولياتهم في التحري عن الفاسدين المفسدين من القضاة،  وما أكثرهم بعد أن تغلغلوا في كل  تفاصيل الجسم القضائي ومفاصله.  ولنعلنها صيحة عالية:  لا للتسليم بتلك الثقافة التي تشرعن ما يمكن تسميته "جرائم ضد الانسان" .

-------------------------

عن نشرة "كلنا شركاء" السورية :  7 /  12 / 2009

 


أرسلوا هذه الصفحة للأصدقاء

عودة إلى الصفحة  الرئيسية

عودة إلى صفحة المجتمع

   

حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ