تشرين الثاني / نوفمبر  2008

 


المسلمون وسؤال التنوير

مهدي النجار


"ان منع الاستمرار في تنوير الجنس البشري هو باطل تماما، حتى وإن تم تأكيده من قبل السلطة العليا، من قبل البرلمانات او رجال الدين. لا يمكن لعصر أن يتحد ويتفق على جعل العصر اللاحق في حالة تمنعه من توسيع معارفه (خاصة الملحة جدا) والتخلص من الأخطاء، وعموما التقدم في التنوير. فذلك سيكون جناية في حق الطبيعة البشرية التي تكمن غايتها الأصلية في هذا التقدم بالضبط. وإن للاجيال الحق كل الحق في أن ترفض تلك القرارات وأن تعتبرها غير مشروعة وطائشة."

* * * * *

بات امام المسلمين جمع هائل من الاسئلة الملحة تجمعت في اضابيرُنسيت واُهيل عليها أتربة الازمنة المتعاقبة، وهم مثل كل شعوب الارض يرغبون بألحاح ان يغيروا من صيغة راهنهم التي لم تعد تطاق،هذه الصيغة المترهلة في اقتصادياتها والمشوهة في تنمياتها البشرية والمتخلفة في علومها وتكنولوجياتها والمعتمة في ثقافتها وتصوراتها،كلما حاولوا النهوض والتخلص من صيغة واقعهم المحبط والاندراج في مضامير الحداثة والتقدم التبست امامهم الاسئلة ومن بين اكثر الاسئلة التباساً وتشويشاً التي تواجه المسلمين في العصر الراهن هو سؤال التنوير بمعناه المعاصر رغم ان الامر المتعلق بتاريخ التنوير لاينفصل عن الفضاءات الدينية التي تعود الى القرون الوسطى. ففي "سفر التكوين" مثلاً تجد العبارة التالية: " ثم وجد الله ان النور حَسَنْ، ففصل بين النور والظلام" وبما ان الله هو خالق النور، فانه وجد فيه أنبل صفاته. ولذلك فهو يدعو (اي الله) نفسه في التوراة ب: " النور الابدي". ووجهه يضئ او يلمع، وكلامه مصباح او نور... ثم جاء الانجيل واستعاد نفس الصورة عندما قال المسيح عن نفسه: " انا نور العالم، من يتبعني لن يمشي في الظلمات، وانما سيكون له نور الحياة". ثم استمر هذا المفهوم الديني طيلة العصور الوسطى في كتابات اللاهوتيين المسيحيين والصوفيين وأصحاب التقى والورع، وهو يدل على الوحي المنير أو الإشراقي الذي يضيء للإنسان طبيعته، وغاياته في هذه الحياة الدنيا ثم الآخرة أيضاً، وكذلك الواجبات المترتبة عليه. وراح اللاهوتيون يتحدثون عن "النور الإلهي" أو "نور الإيمان" الذي يتجلّى لبعض الشخصيات الاستثنائية في التاريخ، كالأنبياء وكبار الصوفيين. ولكن المصطلح قد يدل أيضا على التراث الديني للكنيسة المسيحية، ولذلك قال بعضهم: ان أنوار الإيمان والانجيل بدَّدت ظلمات الجنس البشري وعماه. ولا يخرج الاسلام عن تلك التصورات الدينية عن التنوير فهو جعل من التنوير في كتابه التاسيسي، القرآن الكريم، هدفاً مركزياً من اهداف الرسالة الاسلامية تتواصل وتتناغم مع اهداف الرسالات السماوية التي سبقتها: " ولقد أرسلنا موُسى بآياتنا أن أََخرجْ قومكَ من الظُلمات الى النور" [ابراهيم: 5 ] ويؤكد القرآن في موقع آخر علاقة النور بالكتاب المقدس فيقول: "قد جاءَ منَ اللهِ نورًٌ وكتابٌ مبين * يَهدي به الله من اتبعَ رضوانهُ سُبلَ السلامِ ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذنهِ ويهديهم الى صراط مُستقيم " [المائدة: 15 ،16 ] والانوار التي يقصدها القرآن مستمدة من النور الالهي لان الله نور السماوات والارض وهو" نورٌ على نوُر يهدي الله لنورهِ من يشاءُ " [ النور: 35 ] ونلاحظ ان الانوار التي تغمر النفوس البشرية وتصقلها من التشوهات مصدرها القدرة الالهية : "وَمَن لمَّ يجعلِ اللهُ لهُ نوراً فما لهُ من نورٍ " [ النور:40 ]

ويركز التنوير القرآني على ان الهداية لنور الله او التنعم بالانوار الالهية لايتم الا عن طريق التوحيد او الاجابة عن هذا الاستفسار المختصر الجميل : " يا صاحَبي السجن أأربابٌ متفرقونَ خيرٌ أم الله الواحد القهار" [يوسف: 39 ] وتاتي الاجابة على لسان صاحب الدعوة في ثنايا صفحات الكتاب وعلى طولها وعرضها: "ألا تعبدوا إلا الله انني لكمُ منهُ نذيرٌ وبشيرٌ " [ هود: 2 ] وحول هذا المعنى التنويري انتشرت الادبيات الصوفية في العالم الاسلامي وكونت لها تياراً متميزاً يقول :

بان ثمة نوراً روحياً يتخلَّل الكون كاشراق لدنيّ هو جوهر الاشياء جميعاً، وبمعنى اخر ووفق اعتقاد شيخ المدرسة الاشراقية قتيل الاشراق الشيخ السهروردي: ان النور هو مبدأ الوجود الوحيد واصل كل الاشياء وان الله هو نور الانوار. وما الظلمة الا انحدار الوجود عن المبدأ- النور، وكلما انحدر هذا الوجود اتجه نحو الظلمة، لذا كان الهدف الاسمى (او القيمة العليا) للانسان هو ان يترقى صعوداً حتى يتلاشى في مصدر الانوار ويفنى.

 

تلكم المقدمة المقتضبة تفيدنا للدخول في فهم مصطلح التنوير بمعناه المعاصر حيث تم فصله عن السياج اللاهوتي ليتعلمن بافكار نخبة من المفكرين الاوربيين، ويتخلص تدريجياً من الهالة الدينية المسيحية ليدل على عصر بأسره: هو عصر التحرر العقلي والفكري في القرن الثامن عشر. وعندئذ راح يتخذ شكل المشروع الفكري والنضالي الذي يريد تخليص البشرية الأوروبية وغير الأوروبية من ظلمات العصور الوسطى وهيمنة رجال الكنيسة. بالطبع فإن المشروع كان ضمنياً لا علنياً، بسبب خوف الفلاسفة من السلطة والكنيسة المرتبطة بها عضوياً، ولم يتبلور المشروع بوضوح إلا على يد كوندورسيه في كتابه الشهير: «مخطط البيان التاريخي لتقدم الروح البشرية» (أوالفكر البشري)  -  1794

لكي نَلمَّ اكثر بمفهوم "التنوير" ينبغي الرجوع الى المقال الشهير "ما التنوير" لكاتبه الفيلسوف كانط، المنشور لاول مرة في مجلة "برلين" الشهرية، في عدد ايلول 1784 (ترجمة اسماعيل مصدق/ مجلة "فكر ونقد". المغرب 2008 ) لاستخلاص النقاط المهمة حول الموضوع:

* إن الكسل والجبن هما السبب الذي يجعل طائفة كبيرة من الناس يظلون، عن طيب خاطر، قاصرين طوال حياتهم، حتى بعد أن تكون الطبيعة قد حررتهم، منذ مدة طويلة، من كل قيادة خارجية والذي يجعل آخرين ينصّبون أنفسهم بسهولة أوصياء عليهم. إنه من المريح جدا أن يكون المرء قاصرا. إذا كان هناك من يفهم الكتاب نيابة عني، وواعظ له ضمير نيابة عني، وطبيب يحدد لي نظام تغذيتي الخ، فإني لن أحتاج إلى أن أجتهد بنفسي. ليس من الضروري أن أفكر ما دمت قادرا على أداء الثمن؛ ذلك أن الآخرين سيتحملون هذا العمل المزعج نيابة عني.

* لمن الصعب على أي إنسان بمفرده أن يتخلص من القصور الذي أصبح تقريبا بمثابة طبيعة له. بل أكثر من ذلك، إنه غدا يحبه، وهو في الوقت الحاضر عاجز بالفعل عن استخدام فهمه الخاص، لأنه لم يسمح له أبدا بأن يحاول ذلك. إن النظم والقواعد، هذه الأدوات الميكانيكية لاستعمال المواهب الطبيعية، أو قل لسوء استعمالها، هي بمثابة قيود للقصور الدائم. وحتى من خلعها، لن يتمكن من القيام إلا بقفزة غير آمنة فوق أضيق الحفر، لأنه لم يتعود على مثل هذه الحركة الحرة. لـهذا السبب، لم يوفق إلا القليلون في أن ينتزعوا أنفسهم من حالة القصور بواسطة مجهودهم الخاص وأن يسيروا مع ذلك بأمان.

* من الممكن ان ينوّر جمهور ذاته، ، بل إنه تقريبا أمر محتم إذا كان هذا الجمهور متمتعا بالحرية. ولكن لا يمكن لجمهور أن يبلغ التنوير إلا بتأن. فالثورة قد تطيح بالاستبداد الشخصي والاضطهاد المتعطش للمصلحة المادية أو السلطة، ولكن لا يمكن أن تؤدي أبدا إلى إصلاح حقيقي لنمط التفكير بل فقط إلى استخدام أحكام مسبقة جديدة، مثلما كانت تستخدم القديمة، كشريط موجه للأغلبية التي لا تفكر.

* وإنه من أجل بلوغ التنوير لا يتطلب الأمر شيئا آخر غير الحرية وبالضبط تلك الحرية الأقل ضررا بين كل ما يندرج تحت هذا اللفظ، أي حرية الاستعمال العمومي للعقل في كل الميادين.

*إن استعمال الإنسان لعقله استعمالا عموميا يجب أن يكون دائما حرا، وهو وحده يمكن أن يؤدي إلى تنوير الناس؛ أما استعماله الخصوصي فيمكن غالبا تقييده بصرامة شديدة، دون أن يعوق ذلك بشكل خاص تقدم التنوير. أعني بالاستعمال العمومي لعقلنا الخاص ذلك الاستعمال الذي يقوم به شخص ما بصفته رجل فكر أمام جمهور يتكون من عالم القراء بأكمله. أما الاستعمال الخصوصي فأعني به ذلك الذي يمكن أن يقوم به المرء بصفته يتقلد منصبا مدنيا أو وظيفة مدنية ما. وهكذا سيكون من المفسد جدا أن يريد ضابط، خلال أداء عمله، المجادلة جهرا في صواب أو فائدة أمر تلقاه من رؤسائه، بل عليه أن يطيع. ولكن ليس من العدل أن نحرمه، بصفته رجل فكر، من إبداء ملاحظات حول عيوب الخدمة العسكرية وأن يعرض هذه الملاحظات على الجمهور ليحكم عليها.

*يمكن لإنسان أن يرجئ التنوير فيما ينبغي عليه معرفته، أما التخلي عنه، سواء بالنسبة لشخصه، أو أكثر من ذلك، بالنسبة للاجيال، فهو خرق للحقوق المقدسة للإنسانية ودوس عليها بالأقدام.

* لا يحق للملك أن يقرر على شعبه ما لا يحق حتى لـهذا الأخير أن يقرره على ذاته، لأن نفوذه التشريعي يقوم بالضبط على أنه يوحد في إرادته الإرادة الشعبية بأكملها . وإنه إذا حرص فقط على أن يكون كل إصلاح حقيقي أو مفترض ملائما للنظام المدني، فيمكنه، فيما عدا ذلك، أن يترك رعاياه يقومون بما يرونه ضروريا من أجل خلاص نفوسهم؛ فإن ذلك ليس من مهامه، ولكن من مهامه بالفعل أن يحول دون أن يستعمل شخص العنف لمنع شخص آخر من العمل لغاية خلاص نفسه والتقدم في تحقيقه بكل ما يملك من مقدرة.

*لقد وضعت النقطة الرئيسية للتنوير، أي لخروج الإنسان من اللارشد (القصور) الراجع إليه هو ذاته، في الأمور الدينية أساسا، لأن حكامنا ليس لهم أية مصلحة في أن يلعبوا دور الوصاية على رعاياهم في مجال الفنون والعلوم؛ وفوق هذا، فإن ذلك القصور، فضلا عن أنه الأكثر ضررا، فإنه أيضا الأكثر مساسا بالكرامة. ولكن نمط تفكير عاهل يشجع التنوير يذهب إلى أبعد من ذلك، فيرى أنه حتى في مجال التشريع، ليست هناك خطورة في أن يسمح لرعاياه باستعمال عقلهم الخاص استعمالا عموميا، وأن يعرضوا على العالم علنا أفكارهم حول شكل أفضل لـهذا التشريع، حتى وإن تضمنت نقدا صريحا للتشريع القائم.

كان عصر التنوير وما انتجه من افكار وضعية وعقلانية مُلهماً لعدد من الثورات الاجتماعية والسياسية شهدتها اوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اسفرت عن قيام الدولة الحديثة، وقد سادت في هذه الدولة انظمة سياسية بديلة من انظمة القرون الوسطى، بحيث قامت هذه الانظمة بانتزاع الصفة الالهية عن سلطة الملوك. ظلت الثقافة الاسلامية التقليدية والمتشددة تعتني بمفهوم التنوير ضمن حدوده الدينية الكلاسيكية ولم تتبلور في الساحة الاسلامية اي نواة لتأسيس مشروع نقدي لذلك الفهم، لكن تفاعلات مهمة وكبيرة تكونت بين تلك الافكار التنويرية الجديدة التي بزغت في العالم الغربي وبين الافكار السائدة في العالم الاسلامي الا انها تراجعت في نهاية القرن العشرين تراجعاً مخيفاً ومقلقاً وحلَّ محلها التعتيم والتظليم، وبدأ المشروع الاصلاحي والنهضوي بالتضعضع والانكماش، ذاك المشروع الخلاب الذي كان من ابرز رواده: رفاعة الطهطاوي(1801 -1873 )/ محمد عبده(1849 -1905)/ شبلي شميّل(1850 -1917)/ عبد الرحمن الكواكبي(1854 -1902 )/ اديب اسحاق(1856 -1885 )/ جميل صدقي الزهاوي(1863 -1936 )/ انطوان فرح( 1874 – 1922 ) ...الخ. وكانت راياته وشعاراته: الحرية، وتحرير المرأة، والدولة الدستورية، والنهوض في مواجهة سياسة الاستعمار، ومناهضة الاستبداد، والاقتداء بالعقلانية وافكارالاصلاح. انتكست تلك الرايات الزاهية وكاد يُنسى سؤال التنوير الوهاج.


 
   

شارك برأيك في هذا الموضوع

 

 

 
 

 

 

بات امام المسلمين جمع هائل من الاسئلة الملحة تجمعت في اضابيرُنسيت واُهيل عليها أتربة الازمنة المتعاقبة

 

 

 

 

 

 

إن النور هو مبدأ الوجود الوحيد واصل كل الاشياء وان الله هو نور الانوار.

 

 

 

 

 

 

الكسل والجبن هما السبب الذي يجعل طائفة كبيرة من الناس يظلون، عن طيب خاطر، قاصرين طوال حياتهم

 

 

 

 

 

 

الثورة قد تطيح بالاستبداد الشخصي والاضطهاد المتعطش للمصلحة المادية أو السلطة، ولكن لا يمكن أن تؤدي أبدا إلى إصلاح حقيقي لنمط التفكير

 

 

 

 

 

 

 

من أجل بلوغ التنوير لا يتطلب الأمر شيئا آخر غير حرية الاستعمال العمومي للعقل في كل الميادين.

 

 

 

 

 

 

 

 

كان عصر التنوير وما انتجه من افكار وضعية وعقلانية مُلهماً لعدد من الثورات الاجتماعية والسياسية شهدتها اوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر

 

 

 

 

 

 

 

إن مشروع إعادة بناء الدولة هي مهمة وطنية بامتياز، تستدعي استنفار كل الطاقات والهمم دون تجاهل أي طرف

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 


عودة إلى الصفحة  الرئيسية

 

عودة إلى صفحة المجتمع

 

 


حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ