تشرين الثاني / نوفمبر   2008

 


لم أعد أخجل

نادين بدير

 

بدأت القصة منذ كتب علي الحداد، منذ خاطوا لي السواد وألبسوني إياه لتزداد عتمة المدينة.

لم تكن الصغيرة تأبه لجسدها، فقد كان مثاراً للابتسام في طفولتها. لكنها إذ طالت قامتها أصبحت أنوثتها مثاراً للفضيحة، وصار كل ما بها عيباً وعاراً.

وكان أن خجلت من جسدها، فساعدتهم في تكفينه، كممت فمها، أعمت أعينها،

غمست أصابعها في العتمة، عرضت الكساء حول صدرها وخصرها وساقيها. وعبر ثقوب الأقمشة استقبلت نسمات هواء حارقة مخنوقة، مثلها تماماً.

* * *

صار عمري أحد عشرة عاما.... وصوتي عيب...

هكذا قالت النسوة في عائلتي: صوت المرأة من أسباب شرفها. كلما علا قل احترامها. لا بد أن تهمس.

يعني هذا أن صوتي خطيئة.....

قلن أيضاً إن نظراتي خطيئة.. إن ضحكاتي خطيئة...

قلن إن شرف المجتمع يقع بين أفخاذ بناته. أن شرف رجال العائلة ستمحوه ابتسامة مني.. شرف كل رجال العائلة سيضيع مع أول نظرة إعجاب أتبادلها ورجل. قلن إن خجل العذراء مضرب للأمثال.

كن نسوة اللواتي حكين لي كيف أستحي من معطيات الطبيعة، كن نسوة من علمنني كيف تلازم عيني الأرض ولو حيلة.

 

صرت في الخامسة عشرة ومعلمات الدين المهووسات يؤكدن أن من لا تخفي شعرها في الدنيا ستعلق منه في الآخرة.

شعري أيضا خطيئة....

أقسمت معلمة ذات يوم أن وجه المرأة قد خلق ليتمتع به زوجها فقط. أن وظيفة كل امرأة تكتمل بتسليم جسدها لرجل.

كان ودي أن أسألها: وماذا لو لم أتزوج؟ ماذا سأفعل بوجهي، أداة المتعة التي أمتلكها!!

 

كبرت وإمام المسجد يخترق صوته أذني كل جمعة ليشغلني عن الدراسة بعجائب تطرفه، حالفاً مئات الأيمان الأسبوعية أن جسد المرأة لعنة يجب محوها من الوجود...

 

كلي إذاً خطيئة... فلماذا خلقت؟ ألذلك اختاروا لي السواد؟ لأعلن الحداد على مجيئي أنثى إلى هذا العالم؟

وكيف اقتنعت أنا بأن أخجل، أن أستحي، بدلاً عن التباهي بالأعجوبة الكونية؟ أعجوبة الأنوثة.

والسؤال الأهم: متى كانت بداية خجل المرأة من وجودها؟

بالنسبة لي. كل ما أعرفه أنهم أدخلوا دروسا عن الدورة الشهرية في كتب الدين، وقد حفظت الدرس. مكتوب أن أعيش عدة أيام من كل شهر نجسة..

لقد بحثت عن تعريف مصطلح (نجس) بالمعاجم العربية فوجدت كل المترادفات تصب في خانة تعريف واحد وهو (قذر). حينها خجلت.

كيف لا أخجل وأنا القذرة؟ أنا لست كائنة طاهرة نظيفة.

 

ثم سرت في العالم ورأيت..

رأيت تماثيل الآلهة القديمة عارية، رأيت أجساد النساء وقد نحتت في الشوارع والطرقات وعلى جدران الكهوف وداخل القصور والقلاع بطريقة شبه قدسية، الجميع تفنن في نحت جسدي الذي يحمل سر أعجوبة الخلق، رمز النسل والخصب، الجسد الذي لم يتمكن القدماء وأتباع الوثنيات القديمة من إخفاء انبهارهم بقدراته وأعاجيبه. فقدسوه وعبدوه.

تصورت مصير تلك التماثيل والمنحوتات لو أنها خلفت في منطقتنا، تصورت أنها حطمت، غطيت بالملاءات، تصورت أيضاً أنها كانت منبعاً لتقدير المجتمع لأجساد نسائه بدلاً من مواراتها.

كيف مجد السابقون جسدي وكيف ازدراه أهلي..

لن أشارك بهذه الخطيئة. لن أعلن الحداد.

 

عدت إلى مجتمعي...

حيث يفاخر الرجل بمساحات الجسد المكشوفة، وتفاخر المرأة بمساحات الأقمشة المستخدمة. رغم أن المنطق يقول أنه إن كان على أحد أن يداري جسده فالأجدر بالرجال أن يخجلوا بأجسادهم، لأن أجساد النساء أجمل، الجمال هو الذي يجب أن يعم الشوارع لا العكس.

عدت فإذا بالأقمشة هي المعيار الأول للتمييز بين الأفراد ونقض كل مواثيق الإنسان وحقوقه. إن بضعة أمتار من القطن تكفي للحكم على صاحبتهما بالانحراف أو بالعفة. هذه شريفة لحفت كامل جسدها. وهذه في طريقها نحو الشرف، بقي عليها أن تغطي عينيها وتسلك درب الطهارة. أما تلك فليجيرنا الله ، تمشي ومساحات كبيرة من جسدها مكشوفة..

قطن وكتان وحرير، هذه هي معايير الأخلاق هنا، طالما أن كل شيء يحدث داخل الأسوار ولا ينقل للإسفلت.

أول صفعة مجتمعية أخلاقية تلقيتها حين كنت أدرس المرحلة الثانوية في إحدى المدارس التي غلب على المنتسبات إليها من معلمات وتلميذات طابع التشدد حد التطرف..

في حياء كنت أذهب للمدرسة إذ تقرر وفقاً لطريقة ارتدائنا للعباءات أن جميع الطالبات سينعمن في الجنة، وحدنا أنا وصديقتي سندخل النار، وسنشوى وتأكلنا الضباع.

كنت أغبطهن حد الحسد، فلست مثلهن.

وفي يوم جاءتني إحدى زميلاتي. طلبت مني أن أهاتف حبيبها، أن أعلمه بموعد غرامهما القادم لأن هاتفها لم يعد يعمل.

كيف وأنت الفاضلة المتحجبة التي لا تظهر حتى كفيها و قدميها..

كان جوابها: وما علاقة هذا بذاك، أنت كافرة لأنك لا تلتزمين بالحجاب، وتتركين أجزاء من جسدك عرضة لأنظار الغرباء دون حياء.

هذه هي معايير الأخلاق هنا، طالما أن كل شيء يحدث داخل الأسوار ولا ينقل للإسفلت. طالما أن الجسد مغطى بالكامل.

* * *

يبقى هو ذات الجسد داخل الأسوار وخارجها، الفارق في القوانين المعمول بها داخل الأسوار وخارجها.

ما يهمني اليوم هو الخارج حيث يتكلم الرجل بصوت مرتفع، يضحك بأعلى حسه، يحلق ذقنه وهو يغني، ونحن نهمس عند نزع حواجبنا، نهمس عند موعد نزف دمائنا، نداري بخجل مذعورات أكبر دليل على خصوبة الحياة واستمرارها على الأرض.

ولأن الهمس دليل وجود خطأ. ولأني لست خطأً، لأني أعجوبة سأتحدث بصوت مرتفع ليسمعني البشر وسأضحك وسأكشف عن وجودي لإمتاعي أنا لا لإمتاع رجل.

سألني صحفي أمريكي كان يجري معي حواراً: لماذا ترتدين كعب عالي؟ لست بحاجة لذلك؟

قلت له: أكثر ما أحبه بالكعب العالي هو عندما أسير بممر أو أدخل مكان وأقرع به الأرض فيرتفع صوته عالياً، تتوقف بضعة أحاديث ويخيم الصمت في نهاية الممر بانتظار معرفة صاحبة الكعب، هذه وسيلتي أمام ثقافة البيئة التي تخجل من وجودي والتي حولت كعوب النساء إلى أحد المكروهات، وسيلتي لإعلامها أن جسدي له حركة، وأن تلك الحركة تحدث صوتاً.

 


 
   

شارك برأيك في هذا الموضوع

 
 

 

 

أصبحت أنوثتها مثاراً للفضيحة، وصار كل ما بها عيباً وعاراً.

 

 

 

 

 

 

بحثت عن تعريف مصطلح (نجس) بالمعاجم العربية فوجدت كل المترادفات تصب في خانة تعريف واحد وهو (قذر). حينها خجلت.

 

 

 

 

 

 

رأيت أجساد النساء وقد نحتت في الشوارع والطرقات وعلى جدران الكهوف وداخل القصور والقلاع بطريقة شبه قدسية

 

 

 

 

 

 

 

 

في مجتمعي  يفاخر الرجل بمساحات الجسد المكشوفة، وتفاخر المرأة بمساحات الأقمشة المستخدمة.

 

 

 

 

 

 

 

أنت كافرة لأنك لا تلتزمين بالحجاب، وتتركين أجزاء من جسدك عرضة لأنظار الغرباء دون حياء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذه وسيلتي أمام ثقافة البيئة التي تخجل من وجودي والتي حولت كعوب النساء إلى أحد المكروهات، وسيلتي لإعلامها أن جسدي له حركة، وأن تلك الحركة تحدث صوتاً.

 

 

 

 


حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ