كانون الأول / ديسمبر  2008

 


من هو المثقف

صادق نعيمي


تعددت التعريفات لهذه الكلمة كما كثرت أيضا لكلمة ثقافة، ولكن أحاول هنا أن أعطي مفهوماً لا تعريفاً للمثقف نظرا لكثرة ما نطالعه أحيانا من مقالات عن خيانة المثقفين مما ينتج عنه تثبيط همم  الساعين للتغيير من أناس مساحة الهدم لديهم أكبر من قدرتهم علي البناء في لحظة تاريخية حاسمة تتطلب حشد الجهد من أجل محاولة إقامة ديمقراطية اجتماعية تزيح عن كاهل هذا الشعب الصابر، هذا النظام المترهل والمتخلف والتابع للرأسمالية الغربية.

المثقف هو صاحب موقف مؤيد لمبدأين: الحرية والعدالة الاجتماعية، أيا كان موقعه من الخريطة التعليمية والوظيفية والمهنية، أي أنه يمكن أن تجد إنسانا أميا ومثقفا، إذا كان مناصرا لهذين المبدأين، كما يمكن أن تجد متعلما متخلفا ورجعيا. كما أن المثقف لا يوظف بتاتاً ما ناله من معرفة وعلم في خدمة الاستبداد والرجعية والسلطة القائمة، إذا كانت لا تحترم العدالة الاجتماعية والحرية، وإن حدث هذا، يخرج هذا الشخص من دائرة المثقفين إلي دائرة المتعلمين، الذين يسعون من وراء حصولهم علي شهادة ما، إلي الحصول علي عمل ما. والمثقف دائم التمرد علي الوضع القائم، نظرا للحركة العقلية التي تنشأ عنها رؤي جديدة تجعله في بحث مستمر عن كل ما هو متجدد، ولذا لا يمكن أن يكون من يناصر الركود باسم الاستقرار مثقفا، بل هو راكد الروح والعقل حتي إن تشدق ببعض المعلومات.

 ولا يمكن للمثقف أن يخون قضيته المدافع عنها باسم الحرية: حرية المستضعفين في الحصول علي حقوقهم وحرية المعتقد وحرية الفكر، وحرية التعبير. ولا يمكن له أن يخون طبقته الاجتماعية اللهم إلا إذا استشعر أنها ضد الفقراء وضد الاشتراكية كما فعل الراحل العظيم نبيل الهلالي عندما اختار طريقه في الانحياز لهذا الشعب رغم باشاوية أبيه. وما زلت أذكر ما سمعته أثناء تكريم صالون النديم له في عام 2005 عندما قال: "وأنا طفل غرير، دخلت محل حلواني شهيراً في وسط القاهرة لأتزود بما لذ وطاب من الحلوي والجاتوهات. ولما هممت بالخروج من المحل، صدمني مشهد مأساوي لم أنسه ولن أنساه: حفنة من أطفال الشوارع المشردين يتزاحمون ويتدافعون أمام فاترينة المحل ليلحسوا بألسنتهم اللوح الزجاجي الذي يفصلهم عن معروضات يسيل لها اللعاب. يومها قفز إلي ذهني سؤال: لماذا يعاني هؤلاء الأطفال من البؤس والحرمان بينما أنا وأسرتي غارقون في النعيم؟ ومنذ ذلك تحولت النزعة الإنسانية في نفسي إلي موقف واعٍ معاد للاستغلالية والرأسمالية".

وهناك صور كثيرة لهذا التخلي عن الطبقة التي ينتمي إليها المثقف إن كانت لا تنحاز للجماهير والعدل الاجتماعي مثلما نري في مثقفين آخرين كُثر في مصر. وتاريخنا جزء من تاريخ الإنسانية التي ظهر بها أناس يتخلون عن طبقتهم لصالح الحرية والعدالة، كما نجد عند الأديب الخالد، تولستوي، الذي وزَّع أرضه علي الفلاحين الفقراء. وقد يقف المثقف في مواجهة آلة الدعاية التي تبثها الدولة أحيانا باسم الوطنية ومصلحة الأمة كما فعل الفيلسوف والأديب سارتر في وقوفه مع المقاومة الجزائرية في حرب التحرير (1954-1962).

وميلاد حركة كفاية (في جمعية جنوب الصعيد بالعباسية في سبتمبر 2004) يمثل لحظة تجمع لمثقفين عدة علي اختلاف مشاربهم، لتحريك المجتمع بعد ركود زاد علي الثلاثين عاما، وكسروا حاجز الخوف لدي قطاعات شعبية، مما أدي إلي خروج فئات اجتماعية عدة تطالب بحقها الفئوي والوطني، وهي أمور مشروعة تماما حتي إن كانت مطالب جزئية ومهنية ولمّا تتحول بعد إلي حركة شعبية عامة. ولم يعد يمر يوم بمصر إلا وبه اعتراض أو إضراب أو الدعوة لمحاكمة المسئولين عن التعذيب في وزارة الداخلية، وكل هذا يمثل بوادر لتحرك اجتماعي يرجع الفضل فيه إلي حركات التغيير المتعددة. والغريب أن يأتي أناس يقللون من هذه الحركات الاحتجاجية الساعية لتحقيق مطالب فئوية ومهنية مشروعة، فجرتها حركات التغيير منذ 2003 أي العام الذي شهد احتجاجات وتظاهرات ضد الغزو الأمريكي للعراق وتأسيس مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات( 9 مارس).

 إن المثقف الحقيقي لا يقلل ولا يحقر من جهد أحد. إنما هم أدعياء ثقافة أولئك الذين يقللون من جدوي ما تشهده مصر من حراك اجتماعي وسياسي، رغم أنهم لم يوقعوا علي بيان احتجاج واحد ناهيكم عن مشاركتهم في وقفة أو مظاهرة احتجاجية واحدة. إن المثقف هو عنصر منتج للمعرفة التي تخدم الحرية والعدالة أو من يناصرهما فعلا وقولا، لا من يحقر جهد الآخرين قل هذا الجهد أو كُثر، لأن لديه ما يشغله، ما ينتجه، ما يفعله، ما يفكر فيه، ما يحبه، ما يبدعه، من يناصره، من يدافع عنه.


 
   

أخبر أصدقاءك عن هذا الموضوع

 
 

 

 

المثقف هو صاحب موقف مؤيد لمبدأين: الحرية والعدالة الاجتماعية، أيا كان موقعه من الخريطة التعليمية والوظيفية والمهنية

 

 

 

 

 

 

ميلاد حركة كفاية (في جمعية جنوب الصعيد بالعباسية في سبتمبر 2004) يمثل لحظة تجمع لمثقفين عدة علي اختلاف مشاربهم، لتحريك المجتمع بعد ركود زاد علي الثلاثين عاما

 

 

 

 

 


حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ