أيلول / سبتمبر  2008

 


 

الوطن / العـبّـارة

 

علي كنعان


البراءة، يا سلام.. اللَّهم زد وبارك!.. هذا نموذج من العدالة العربية المثلى. نعم، البراءة، هكذا جاء قرار المحكمة الموقرة بحق مالك العبارة العتيد. وإذا كان من حق الضحايا أن يتحولوا إلى أشباح تطارد القتلة، فإن من حق أهاليهم أن يواصلوا الاحتجاج والاستئناف.. عسى أن نسمع قريبا بعودة القضاء المصري إلى نزاهته التاريخية المشهودة واستقلاله التقليدي الأصيل.

صحيح أن بلاد العروبة تحولت كلها إلى عبَّارات مشابهة، بسبب ما فيها من حرائق مستعرة أو محتملة. لكن الفقراء هم الذين يدفعون الثمن دائما، بينما يظل أزلام الرأسمالية المتوحشة وغيلانها يرتعون ويمرحون طلقاء في جهات الدنيا العشر. وإذا كان الكاتب لا يملك إلا المشاركة الوجدانية والوقوف مع المنكوبين بالكلمة العزلاء ضد هذا القرار القضائي الجائر، فإني أخشى أن تتكاثر العبارات المتداعية والتي لا تقل عن عبَّارة السلام 98 فاجعة ومرارة.

يوجز الباحث السوري المتألق ياسين الحاج صالح واقع بلادنا في الصورة الدرامية التالية: "بلد فتيّ جدا. لكنه يبدو متعبا مع ذلك. كل شيء فيه بطيء إلى درجة محبطة. والكآبة تبسط ظلها القاتم على وجوه سكانه...".

من أين جاءت هذه الكآبة الداهمة، بشتى غيومها القاتمة وظلالها الخانقة، وكيف الخلاص منها؟ سؤال جارح لم أستطع الاهتداء إلى جواب شاف له ما دامت ملامح الصورة بأبسط تفاصيلها لا تصلنا واضحة في بلدان الاغتراب، مهما بذلنا من جهد في القراءة وسعة الاطلاع وحرص على التفهم والاستيعاب، وخاصة أن هناك كثيرا من التهويش والدجل والتلفيق يجري في عديد من المواقع والمنابر التي يمولها ويشرف عليها مخلوقات أشبه ما يكونون بعصابات المافيا: المصلحة الخاصة هي المنطلق والأساس.. وليذهب الوطن وأبناؤه الشرفاء إلى حيث ألقت رحلها...!

والإعلام الذي يتولى مسؤولية التوضيح والإرشاد والإقناع يتحول في سوريا إلى مختبرات ومسارح للتعمية والتدجين والتهريج، وكأن المسؤول القائم على رأس تلك المؤسسة الإعلامية الضخمة نائم أو مأخوذ بامتيازاته أو غارق باسترجاع صباه إلى جوار الجميلات النائمات – استئناسا بالروائي الياباني الرائع كاواباتا!

وللعلم: في بلادنا صحفيون أكفاء متميزون، كانوا أساتذة وزملاء وأصدقاء نعمت بصحبتهم طوال ثلاثين سنة، لكن أقلامهم مغلولة وأفواههم مسدودة بما يشبه الإسمنت المسلح... ولا أدري لماذا؟!.. هل اكتشفت القيادة الحزبية المعتقة، مدعومة بالمؤسسة الأمنية الساهرة، أنهم رجعيون مخربون أو عملاء مأجورون سرا للصهيونية والإمبريالية؟!. ذلك ما يثير الحيرة المرة والتساؤل الموجع.

أتذكر ما قاله الرئيس الراحل حافظ الأسد يوما أمام مؤتمر الكتاب العرب، قبل أكثر من ثلاثين سنة: "لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير...". وانسجاما مع هذه المقولة، كان المثقفون السوريون الحريصون على سلامة وطنهم وعزة أمتهم وبناء المستقبل المرتجى يصدرون بيانات أدبية ذات مواقف سياسية مستقلة واضحة، ولم يتعرض أي واحد منا للمساءلة أو الاعتقال. ورغم أن بعض أعضاء القيادة القطرية كانوا يطالبون باعتقال بعض أولئك (المشاغبين)، كان الرئيس يرفض الاستجابة لهم. وكانت فائدة تلك البيانات للنظام تتجلى في مجابهة التدخل الخارجي ورفعها في وجوه كبار المسؤولين الأميركيين الذين يزورون سوريا ويحاولون إحراج النظام بالسؤال عن أحوال الحرية، وبخاصة حرية التعبير.

ماذا جرى؟ وكيف انحدرنا إلى هذا الواقع المأساوي الخانق؟ لا أدري. وكم أتمنى أن أنهي هواجس غربتي وألملم أطراف قلبي المصدوع، في أقرب فرصة، لأرى الواقع سافرا وأقرأ المشهد الحي عيانا، وبخاصة أن الطيور تحن إلى أعشاشها مع اقتراب الغروب!

وفي شوارع الغربة، وعبر الشاشات البهية، أتعزى باستقراء وجوه السوريين مستطلعا ما وراء ملامح البؤس والقهر والاكتئاب. من مظاهر الكآبة لدى الشباب طوابير الباحثين عن عمل يرفع عن كواهلهم ذل السؤال واستجداء نسمة الهواء. ومن مظاهرها بين الكبار شبح الجوع المتربص بسكان الأحياء الشعبية وأكواخ الصفيح وأشباه الصفيح. ولعل افتقاد الكرامة بسبب غياب الحرية وطغيان الرعب الأمني المسلط على الرقاب هو المصدر الأكبر لتلك الكآبة. وربما كان السبب الأدهى أن آفاق المستقبل تبدو غائمة معتكرة ولا تبشر بأي أمل أو احتمال للتطوير والإصلاح.

لكن الأمل، برغم كل الأوجاع والمظالم والخيبات، ينبغي أن يظل كبيرا ما دامت الأرض تدور والحياة في تحول دائم والمجتمع في حراك حي دائب، وإن كنا لا نحس بذلك ولا نراه بالعين المجردة، إنما نراه بعين العقل واسترجاع دروس التاريخ وأطلال الإمبراطوريات.

وليسمح لي عبقري الإعلام والنطاسي (الحكيم) في بلادي أن أتوقف قليلا عند أحداث سجن صيدنايا، وإن بدت له صغيرة وتافهة. ولا بد هنا من الإشارة إلى أني أدرك جيدا أن الإعلام لا يصنع سياسة ولكنه يحاول إيضاح خطها وإزالة الالتباس والتشويش والقلق الذي تحدثه المنابر المعادية.

لقد سمعت وقرأت أشياء مضطربة عن ملابسات الحدث الدامي، وما زالت الصورة مبهمة وفاجعة. أحداث السجون في المدن العربية، وحتى في العالم، عديدة ومتكررة، وهي كأحوال المشافي تقتضي الاهتمام والتحقيق والحل المنصف والرحيم بلا إبطاء. إنها قضية وطنية واجتماعية وإنسانية بامتياز، ولا يمكن أن نمر بها مرور المتفرجين على شريط سينمائي من أفلام رعاة البقر. وإذا تركنا عائلات المعتقلين لظروف القهر والذل والاستلاب، فإن من حق المواطنين السوريين قبل غيرهم، في الداخل والخارج، أن يعرفوا ماذا جرى في ذلك المعتقل.. وأين وصلت نتائج التحقيق العادل والمعالجة الحكيمة، ولو افتراضا وتفاؤلا.

كل متهم معتقل أمانة في عنق السلطة المسؤولة، والخلافات السياسية لا تصنع آلهة وشياطين، والمشرفون على المعتقلات والسجون ليسوا ملائكة منزلين من لدن عزيز حكيم، ولذلك تقتضي العدالة تشكيل لجان تحقيق جديرة بالثقة، وليس لجنة بوليسية صورية، دفعا للظلم والتعسف والافتراء. وهنا يأتي دور الإعلام ليخبرنا بخلاصة ما جرى وما يجري بلا زعبرة ولا رتوش... فليس من المعقول أن تكون سوريا خاضعة لقانون الطوارئ ثلاثة أجيال، وأن تبقى متخلفة في مجال الحريات العامة حتى عن كوريا الشمالية!

وعلى هامش ما حدث، لا أريد أن أقارن بين معاملة الأسرى في المعتقلات الصهيونية وبين أحوال المعتقلات العربية بجميع أشكالها وتصنيفاتها الوطنية، القومية، الاشتراكية (المرحومة) وحتى الأخلاقية. فتلك قصة سمعنا بعض تفاصيلها من عميد الأسرى سمير القنطار الذي لا أملك هنا إلا أن أحييه بكل المحبة والتقدير والاعتزاز، وبخاصة لأنه يرفض التكريم من أي نظام عربي. لكني أحلم وأتمنى أن يلهم الله المسؤولين في بلادي فينظروا إلى الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ما حدث في سجن صيدنايا، لأن هؤلاء المعتقلين كائنات من البشر لهم أهاليهم وكرامتهم ومشاعرهم الإنسانية وحاجاتهم الطبيعية، حتى وإن لم نعتبرهم مواطنين جديرين بشرف المواطنة، ضمن معاييرنا الأخلاقية الكسيحة العشواء. وهذه الأمنية محكومة بالخوف من تكرر الحادثة.. والخوف الأكبر أن يتحول الوطن كله إلى عبَّارة.

 


 
   

شارك برأيك في هذا الموضوع

 

 
 

 

 

 

الفقراء هم الذين يدفعون الثمن دائما، بينما يظل أزلام الرأسمالية المتوحشة وغيلانها يرتعون ويمرحون طلقاء في جهات الدنيا العشر

 

 

 

 

 

 

لعل افتقاد الكرامة بسبب غياب الحرية وطغيان الرعب الأمني المسلط على الرقاب هو المصدر الأكبر لتلك الكآبةلعل افتقاد الكرامة بسبب غياب الحرية وطغيان الرعب الأمني المسلط على الرقاب هو المصدر الأكبر لتلك الكآبة

 

 

 

 

 

 

من حق المواطنين السوريين قبل غيرهم، في الداخل والخارج، أن يعرفوا ماذا جرى في ذلك المعتقل..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 تقتضي العدالة تشكيل لجان تحقيق جديرة بالثقة

 
 
   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

un compteur pour votre site