أيلول / سبتمبر  2008

 


 

الطريق الثالث لإنقاذ الوطن من الاستعمار والظلامية

عبد الله حنا


 

قبل ظهور النهضة العربية في القرن التاسع عشر كانت الإيديولوجية الصوفية هي التيار المهيمن في العالم العربي . قافلة النهضة فَتحت، على الرغم من تعثرها، في مستهل القرن العشرين طريقا لتُكوِّّن تيارين نهضويين: التيار الديني الإسلامي المستنير، والتيار الليبرالي المستند إلى منجزات الثورة البورجوازية المناهضة للإقطاعية .

يعود سبب تعثر النهضة إلى عاملين رئيسيين: الأول ضعف الحامل الاجتماعي للنهضة المتمثل بمحدودية التطور الرأسمالي وضمور الطبقات ذات المصلحة في النهوض وتغيير النظام الإقطاعي المتخلف . والعامل الثاني تمثَّلَ برسوخ أقدام الإيديولوجيات الدينية الكابحة للتقدم وهيمنتها على أفئدة الجماهير المؤمنة .

وقد أدى انهيار الدولة العثمانية عام 1918 وإلغاء منصب الخلافة عام 1924 إلى تحرير واسع (وليس بالمطلق) للجماهير المؤمنة من هيمنة قوى الإقطاع الفكري وصعود تيارَيْ النهضة: الديني المستنير والليبرالي واحتلالهما مواقع هامة في مجتمعات العالم العربي . ومع هذا الانتعاش النهضوي في الربع الثاني من القرن العشرين برز تياران جديدان متداخلان مع بعضهما: التيار الماركسي والتيار القومي العربي . ومقابل هذه التيارات النهضوية الثلاثة ظهر في مصر عام 1928 تيار سلفي عُرف باسم الإخوان المسلمين سرعان ما امتد إلى بلاد الشام ساعياً للتلاؤم مع الصعود الوطني والنهضوي، الذي شهده منتصف القرن العشرين . وفي مواجهة التيار الماركسي ومن تحالف معه من قوى وطنية، أخذ تيار الإخوان المسلمين، يشدد على شعار: (لا شرقية ولا غربية)، وهو عملياً يقصد العداء والوقوف في وجه الاتحاد السوفيتي، الذي زوّد العرب بالسلاح واكتسحت مواقفه المناهضة للصهيونية أفئدة الجماهير .

***

شهد الربع الأخير من القرن العشرين ظواهر لم تكن في صالح التيارات النهضوية . بسبب عوامل داخلية (متعلقة بتراجع قطاع الدولة وظهور فئات بيروقراطية وطفيلية أكلت الأخضر واليابس وهي تطلب المزيد) وعوامل خارجية (انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز الولايات المتحدة كزعيمة لعالم الرأسمال والاستعمار) .

ومع تعمّق تأثير العوامل الداخلية والخارجية واحتلال البترودولار ميدان السبق وصرف أموال النفط العربي والإيراني، بلا حساب، للسيطرة المادية والفكرية على أفئدة المؤمنين، برزت في الربع الأخير من القرن العشرين الظواهر التالية:

- انكفاء الفكر الديني الإسلامي المستنير، وانفلات الغرائز الدينية، على مستوى العالم، خارج قيم الدين، مما أدى إلى تحويل الصراع إلى صراع همجي .

- ضمور السلفية الإسلامية التنويرية لعصر النهضة العربية، وبروز سلفية متزمتة ومتحجرة تنهل من معين (البترو دولار) في عهد عولمة يطغى عليها استبداد الرأسمال المتوحش .

- ظهور آراء وازنة في قلب المجتمعات العربية تبرر للحركات السلفية الرجعية ما تقوم به من أعمال .

- ضمور الطابع التقدمي للفكر القومي العربي، والتبرير للاستبداد باسم النضال ضد الإمبريالية.

- عودة الولاءات العشائرية والطائفية واحتلالها مواقع هامة في عدد من المجتمعات العربية. كما عادت إلى الساحة ظاهرات الشحن المذهبي ذات الأهداف السياسية والمتسترة بالدين.

- ومع الفورة النفطية عام 1973 وترسّخ أقدام الدولة الريعية النفطية تخلخلت البنى الاجتماعية وأصبح الحديث عن الطبقة العاملة المتكوّنة في منتصف القرن العشرين بحاجة إلى دراسة. كما اختفت البورجوزية الوطنية الصناعية المنتجة. وفي الوقت نفسه ازدادت هيمنة الفئات الطفيلية والبيروقراطية آكلة الأخضر واليابس. أما عن ضمور دور الفئات الوسيطة المنتجة فكرياً ومادياً فحدّث ولا حرج. كل ذلك أدى إلى انتعاش ظواهر سلبية منها:

- تراجع اليسار ثمّ ضموره بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ودخول الحركات الشيوعية في عهد الشيخوخة.

إن حركة التاريخ هذه الأيام تحكمها ظاهرتان:

- ظاهرة الرأسمالية المتوحشة المنفلتة من عقالها وهي تخبط خبط عشواء.

- ظاهرة صعود الأصوليات الدينية المتعددة المشارب والألوان، وخلافها فيما بينها ومع الآخرين.

وفي خضمّ هذه الأحداث تفرّق أنصار النهوض أيدي سبأ. فبعضهم ظنّ أن طريق الخلاص سيكون على يد أمريكا متغنياً بديمقراطيتها. وآخرون استسلموا وضعُف قلبهم, أو شدتهم بعض مواقف التيارات الأصولية المناهضة للاستعمار والصهيونية، وعقدوا الرجاء على تلك القوى للتحرر من الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. ووقف فريق ثالث حاملاً الراية، راية العمل لنهضة عربية جديدة تستفيد من تجارب الماضي وتتطلع إلى بناء مستقبل عربي تنويري تسوده العدالة والحرية.

ما يهمنا في هذه المقالة رأي أو موقف أنصار الطريق الثالث المنادي بمحتوى الشعار التالي: (لا استعمارية ولا أصولية) ظلامية.. (هيّ هيّ نهضوية) عربية.

الطريق الثالث هذا عليه أن يكافح ضد الرأسمالية الهمجية ورأس حربتها حكام واشنطن الرُّعْن من جهة، ويقف في وجه الأصوليات الدينية المتزمتة والمتحجرة والمولِدة للطائفيات والشاحنة للمذهبيات والمفرّقة بين أبناء الوطن.

هذا الطريق الثالث عليه أن يسعى لإحياء أفكار الرأسمالية الثورية في أيام كفاحها ضد الإقطاعية، وأن يسعى لإعادة الاعتبار إلى السلفية الإسلامية النهضوية، وإلى الاستنارة بالجوانب المضيئة في تراثنا العربي الإسلامي. الطريق الثالث هذا هو طريق الخلاص الوطني، طريق النهوض على دروب التوحيد الوطني والتنوير الحضاري.

***

وتحضرنا هنا، وفي عتمة العدوانية الاستعمارية والصهيونية، ومع انتشار الأصوليات الظلامية المتزمتة والمتحجرة وصعودها الكاسح أطروحات الخلاص التالية:

- السير على هدى رؤى علمية عقلانية ذات جذور تراثية متنورة، وتطلعات إنسانية عالمية، ومعرفة بالواقع العربي والعالمي, وعمل دؤوب لبناء غد عربي يواكب صعود الحضارة الإنسانية ويقف إلى جانب الحق والخير والعدالة.

- عدم النظر إلى (الغرب) ككتلة متماسكة تقف ضدنا وتؤيد المشروع الصهيوني. (فالغرب) هو مجموعة كتل وتيارات ومصالح، بعضها معنا وبعضها ضدنا، والباقي يقف على الحياد.

- خطأ، بل خطر، تصوير الصراع العربي الإسرائيلي بأنه صراع ديني أو حرب صليبية. فهذا الاتجاه يصبّ في خانة التيارات الصهيونية ويمنحها دون أن يدري سلاحاً ضد قضايانا العادلة. كما أن اتجاهاً من هذا النوع يضلل، شاء أم أبى، الجماهير العربية ويصرفها عن توجيه الضربات إلى عقر دار الغزو الصهيوني ومشروعه، الذي تغذّيه فئات دينية يهودية رجعية متعصبة تعيش في أجواء منغلقة متزمتة حاقدة على الحضارة العربية الإسلامية.

- النظر إلى العولمة بعين بصيرة يمكنها مشاهدة الجوانب المتناقضة الإيجابية منها والسلبية.

- الدفاع عن هويتنا العربية الإسلامية عن طريق الجمع الخلّاق بين فهم الماضي في إطاره التاريخي وظروف إنتاجه، والسير نحو المستقبل بخطا ثابتة تنهل من الإنجازات الحضارية العالمية وتسعى للإبداع وعدم الاقتصار على دور المتلقي والمستهلك.

- الابتعاد، في الخطاب السياسي والثقافي العربي عن الخطب الرنّانة والكلام الأجوف والمقالات الإنشائية العديمة المضمون. ونهج سياسة واقعية تسهم في تعميق المعارف والتغلب على التخلف العلمي والتقني وتحرير الجماهير من الأوهام والغيبيات والأساطير.

- العمل لتأسيس أو إعادة الاعتبار لمؤسسات المجتمع المدني، من أحزاب ونقابات ونوادٍ وجمعيات، كي تلعب دوراً أساسياً في قيادة المجتمع بالاستقلال والتنسيق، في آن، مع (الدولة العربية الحديثة)، التي عليها أن تتخلى عن تراثها السلطاني القمعي، وتنهل من معين التراث العربي الإسلامي المناهض للاستبداد، وتسير في طريق التقدم الحضاري العالمي مستفيدة من التجارب الخيّرة المحلية والعالمية.

- وأخيراً وليس آخراً السير في طريق العدالة الاجتماعية، والاستفادة من تجارب الشعوب في السعي لبناء اشتراكية تلغي استثمار الإنسان للإنسان، وبناء مجتمع (المدينة الفاضلة)، الذي حَلِمَ بقيامه رواد الإنسانية في التاريخ.


 
 
   

شارك برأيك في هذا الموضوع

 

 
 

 

 

 تعثرت النهضة العربية، التي انطلقت في القرن التاسع عشر،  بسبب ضعف الحامل الاجتماعي لهذه النهضة  وضمور الطبقات ذات المصلحة في تغيير النظام الاقطاعي المتخلف.

 

 

 

 

 

 

 احتل البترودولار ميدان السبق وصرفت أموال النفط العربي والإيراني، بلا حساب، للسيطرة المادية والفكرية على أفئدة المؤمنين

 

 

 

 

 

 

تحول الصراع إلى صراع همجي بسبب انكفاء الفكر الديني الإسلامي المستنير، وانفلات الغرائز الدينية ، على مستوى العالم، خارج قيم الدين.

 

 

 

 

 

 

ظن بعض  أنصار النهضة أن الخلاص سيتم عن طريق أمريكا، وآخرون عقدوا الرجاء على التيارات الأصولية،  وفريق ثالث حمل راية نهضة عربية جديدة تتطلع إلى بناء مستقبل عربي تنويري تسوده العدالة والحرية

 

 

 

 

 

على الطريق الثالث أن  يسعى لإجياء أفكار الرأسمالية الثورية في أيام كفاحها ضد الإقطاعية، وإعادة الاعتبار إلى السلفية الإسلامية النهضوية،

 

 

 

 

 

 تصوير الصراع العربي الإسرائيلي بأنه صراع ديني أو حرب صليبية يصبّ في خانة التيارات الصهيونية ويمنحها دون أن يدري سلاحاً ضد قضايانا العادلة.

 

 

 

 

 

 

 

إعادة الاعتبار لمؤسسات المجتمع المدني، من أحزاب ونقابات ونوادٍ وجمعيات، كي تلعب دوراً أساسياً في قيادة المجتمع

 

 
 
 
 
   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

un compteur pour votre site