أيلول / سبتمبر  2008

 


 

تأملات في شأن الحرية والنقد والدين

ياسين الحاج صالح


 

ليس لأن نظمنا السياسة استبدادية نفتقر إلى الحرية في بلداننا العربية. نظمنا استبدادية بلا ريب، ونحن محرومون من الحرية بالتأكيد، لكن لسبب آخر: فكرة الحرية واهنة في ثقافتنا. لم نشتغل عليها ولم نبنِها. ولم نفعل لأننا لم نشعر بالحاجة إلى الحرية. يحصل أن نشعر بقيود في المجال السياسي أو الاجتماعي أو الديني أو الدولي، ويحصل أن نقاوم القيود هذه، لكن مقاوماتنا لم تبلور وعيا لذاتها يدور حول مفهوم متسق للحرية، حرية جميع الأفراد في جميع المجالات. نقاوم، نعترض، نرفض، ربما بعنف، لكن قلما نفكر في مقاوماتنا أو نتدبر أمرها. وبالتحديد قلما نقاوم مقاوماتنا، أو «نقيم عليها حد» التفكير والعقل. تبقى مقاومات خاماً، أوثق صلة بالطبيعة والغريزة والدم منها بالثقافة والحرية والسياسة المدنية. لذلك لا ترتسم الحرية في أفق مقاومتنا. ولعلها لذلك أيضا تجنح بسهولة نحو العنف. يبدو هذا غير عقلاني. فكأننا نفضل التضحية بأنفسنا بدل التضحية ببعض أفكارنا وعاداتنا الفكرية. كأن جهد العقل والروح أصعب علينا من جهد العضلات و»القوة الغضبية». بلى، إنه غير عقلاني، لكنه عين الواقع.

 

والحال إن من سماتنا الثقافية التي يتعين تقصّيها وتوضيحها وإخضاعها لنقد جذري ما قد نسميه قوة حضور المعطى الأول، الخام، وضعف طاقتنا التنظيمية، العقلية والقيمية والقانونية والسياسية التي تجعل من المعطى الأول ثقافة ونظاما وحرية. لدينا مقاومة أولى، مطلقة، وليس لدينا مقاومة ثانية، منضبطة سياسيا وفكريا. ولدينا أجهزة أولى، لكن ليس لدينا مؤسسات، أي أجهزة ثانية؛ وسلطات أولى، وليس سلطات ثانية، أي دولا. لدينا مجتمعات تكاد تكون طبيعية، ومن هنا قوة الطوائف والقبائل والجماعات الدينية، وليس لدينا «مجتمعات مدنية»، مستقلة وذاتية الانتظام. ولدينا ثقافة أولى، أيديولوجية، في شأن مختلف شؤون الحياة، لكن ليس لدينا إلا القليل من ثقافة ثانية عن بعض شؤون الحياة. ولدينا نقد أول، خام، أي هجاء و»ردح»، ويندر أن يكون لدينا نقد ثان، نقد ينظر في ذاته ويعمل على وعي ذاته، فينتج معرفة وقيما ومناهج نقدية. وكل هذا يجعل منا عربا أوّلين، أعرابا وأقرب إلى بدو رغم كل المظاهر، فيما لا مناص من أن نغدو عربا ثانين، عربا انفصلوا عن أنفسهم فأصلحوها وأعادوا الارتباط بها. لا مناص إن لم يكن التبدد خيارا.

ما الذي يفسر احتجاز روح المراجعة والتنظيم لدينا، أي بالضبط إعاقتنا الحضارية؟ وهل من سبيل إلى تجديد ثقافتنا أو تطويرها إلى ثقافة ثانية؟ وهل من «موضوع» أنسب من غيره للتجدد الثقافي؟ نعم. الدين. الإسلام مبدئيا.

هذا موضوع كبير جدا. وتنظيمه وتطوير افتراضات منشطة للتفكير بشأنه يأخذ وقتا كبيرا، لكنه مثمر جدا. والدين هو «الموضوع» الأنسب لهذا السبب بالذات. فمن شأن النجاح في تنظميه وعقلنته ونقده أن ينعكس إيجابا على تفكيرنا السياسي والثقافي والاجتماعي والفني، فيما لا ينعكس نجاح مفترض في مجالات أخرى على غيره إلا نجاحا محدودا. إذاً، لخصوبة نقد الدين. لكن لجذريته أيضا. فالتمكن النفسي والفكري من نقد الدين ضمان متين لنقد الدولة والسياسية والمجتمع والثقافة والنظام الدولي. والتحرر العقلي والنفسي الذي يدره نقد سلطة الدين العقلية والاجتماعية والسياسية والرمزية هو الركيزة الأصلب التي تتأسس عليها أعمق حريتنا. إن نقد الدين هو الشرط الضروري لكل نقد فعلا.

لكن لماذا الدين، الإسلام؟ لأن الإسلام في صيغته التاريخية الراهنة يثبت ويحرس حالة «الأولية» والبداءة التي نحن عليها، بما في هذه، بالخصوص، الارتباط بالأهل والماضي والمألوف والحميمي. وتاليا لأن من شأن نقده وإصلاحه أن يطلق طاقة تحريرية أكثر من نقد وإصلاح أي شيء آخر. تحرير الأفراد من الأهلي، وتحرير الثقافة من الأولي. وسيتكون لدينا بالنتيجة إسلام ثان، إسلام مختلف عن الإسلام الأول الراهن، أليف وربما حليف لحرية العقل والضمير والاعتقاد الديني.

هذا بالطبع درب محفوف بشتى أنواع المخاطر. قد يكون أظهرها غضب أجهزة دينية وتكفيرها للناقدين وتحريضها عليهم. أظهرُها وأبداها، لكنه بسيط مع ذلك. الأشد تعقيدا هو تطوير نقد «تقدمي»، مؤسس على معرفة متطورة، وعلى القيم الإنسانية العامة كالمساواة والعدالة والحرية والاحترام والارتقاء الأخلاقي لجميع الناس، وعلى «الفضائل المدنية» للمعرفة كالوضوح والاعتدال والإنصاف والكرم. هذا نادر للأسف.

نقد الدين لا يجري في مختبر معزول. يتميز تحليليا عن نقد السياسة ونقد الثقافة ونقد المجتمع، لكنه لا ينفصل عنها عمليا. هو كما أشرنا ضمانة للجذرية، بالخصوص في زمننا الراهن. نتدرب عبره على نقد أكثر راديكالية وعمقا ونضجا لحياتنا السياسية وسلطاتنا ونظم حكمنا وقوانيننا وإيديولوجياتنا وتنظيماتنا الاجتماعية. نتدرب على يديه أيضا على نقد وعينا وثقافتنا وهويتنا، ما يشرط انبناءنا كذوات عارفة وكفاعلين أخلاقيين قادرين على تطوير نقد بصير ومتسق لغيرنا (دون ذلك نقد الغير لا قيمة له). وبذلك فإن نقد الدين هو التدرب الأقسى على الانفصال عن الذات وموضعتها، بما يساعد على إصلاحها وإعادة إنشائها. هو تاليا النقد التأسيسي. وما النقد السياسي في غياب نقد تأسيسي إلا استهلاكا من رصيد ثقافي وقيمي ورمزي معدوم أصلا، أو يكاد. ولا ريب أن قوة إغراء النقد السياسي لنا يتصل بانجذابنا إلى القوة الخام، المعطى الأولي، ويطل من ثم على حالة الأولية أو البداءة التي سلفت الإشارة إليها. إن النقد السياسي تال منطقيا لنقد الدين والثقافة. ليس في قول هذا فتوى بالامتناع عن نقد السياسة وأهلها، لكنه حث على وعي حدود هذا النقد وشروط جدواه في شروطنا الراهنة. فكي يكون نقد السياسة مجديا، نحتاج أولا إلى قيم موجهة للنقد ومعايير ضابطة له، وهذا لا يتأتى من غير نقد ثقافتنا الحالية، والدين في قلبها. أما دون انقطاع ثقافي مؤسس فلن يكون التغيير السياسي إلا إبدالا لمستبدين بمستبدين.


 
   

شارك برأيك في هذا الموضوع

 

 
 
 
 

فكرة الحرية واهنة في ثقافتنا، لم نشتغل عليها ولم نبنها لأننا لم نشعر بالحاجة إلى الحرية... ومقاومتنا للقيود أوثق صلة بالطبيعة والغريزة والدم منها بالثقافة والحرية والسياسة المدنية.

 

 

 

 

 

 لدينا مجتمعات تكاد تكون طبيعية، ومن هنا قوة الطوائف والقبائل والجماعات الدينية، وليس لدينا «مجتمعات مدنية»، مستقلة وذاتية الانتظام.

 

 

 

 

 

لتحرر العقلي والنفسي الذي يدره نقد سلطة الدين العقلية والاجتماعية والسياسية والرمزية هو الركيزة الأصلب التي تتأسس عليها أعمق حريتنا.

 

 

 

 

 

 

كي يكون نقد السياسة مجديا، نحتاج أولا إلى قيم موجهة للنقد ومعايير ضابطة له، وهذا لا يتأتى من غير نقد ثقافتنا الحالية

 
 
 
 
   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

un compteur pour votre site