أيلول / سبتمبر  2008

 


 

عندما يتقاعد العالم

د. سليمان إبراهيم العسكري


 

لسنا استثناء في هذا العالم‏,‏ وما سيحتاج إليه في المستقبل‏,‏ لابد أنه واصل إلينا‏,‏ ولأننا نفتقد ـ غالبا ـ التخطيط للغد ونحيا الحياة يوما بيوم‏,‏ فإن تحولات العالم تفاجئنا‏,‏ ونحن لها غير متأهبين‏,‏ هكذا دهمتنا أزمة غلاء أسعار الغذاء العالمي‏,‏ ودهمتنا وتدهمنا تغيرات المناخ‏.‏ وإذا كان هذان المثالان مما لانستطيع معه ادعاء القدرة المنفردة علي التدبير والتفكر‏,‏ نظرا إلي أبعادهما العالمية‏,‏ فإن هناك أزمة قادمة لم نفكر فيها‏,‏ أزمة ترتبط بالوضع السكاني العربي المستقبلي‏,‏ ولأننا لانملك معطيات عربية واضحة في هذا الشأن‏,‏ فإننا نفتح هذا الملف المستقبلي الخطير‏,‏ في ضوء معطيات الآخرين الذين يعيشون اللحظة‏,‏ ويشغلهم المستقبل آلان جرينسبان رجل بدا عجوزا منذ فترة بعيدة‏,‏ منذ بدأ يظهر علي شاشات التلفاز‏,‏ ويرتبط بأخبار المال في العالم‏,‏ بل مركز المال في العالم‏,‏ فهو شغل منصب رئيس مجلس إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لمدة عشرين عاما قبل أن يتقاعد في عام‏2006‏ م‏.‏ وبعد تقاعده ـ شأن معظم المسئولين وأهل الخبرة في العالم ـ أصدر كتابا يحكي فيه عن تجربته‏,‏ ويمد خيوط هذه التجربة ليتأمل أسئلة المستقبل‏,‏ وكان مدار التجربة المعيشية وتأملات المستقبل ـ علي السواء ـ هي أمور الاقتصاد والمال‏,‏ وهي أمور ثقيلة الظل بالنسبة إلي عموم المثقفين‏,‏ بل غير مفهومة لغير المتخصصين‏,‏ لكن هذا العجوز حول الكتابة في موضوع شديد الوطأة كالاقتصاد‏,‏ إلي قصة بوليسية عبر تعقب الأرقام والتحليلات من خلال قصة حياته وتقلبات العام الذي عاش ويعيش فيه‏,‏ وقد أسمي الكتاب ضخم الحجم عالم في اضطراب من‏621‏ صفحة‏,‏ ليصف الفترة التي عايشها والفترة التي يمد بصره إلي آفاقها ولقد أثار الكتاب في ذهني شجونا عربية‏,‏ وبالرغم من أنه لايكاد يذكر العرب في كتابه‏,‏ ومن بين ما أثاره موضوع المأزق السكاني الذي أظن أننا غير منتبهين له‏,‏ أو علي الأقل غير منتبهين بالدرجة الكافية التي يستحقها مأزق بهذا التغلغل المحتمل‏,‏ والضغط الاخلاقي والاقتصادي والاجتماعي الذي لابد أن يصاحبه يقول جرينسبان في كتابه هذا إن العالم المتقدم بأسره علي شفا هوة ديموجرافية غير مسبوقة‏,‏ ذلك أن جماعة ضخمة من العمال هم من ولدوا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية‏,‏ علي وشك الانتقال من العمل المنتج إلي التقاعد‏,‏ وعدد العمال الأصغر سنا أقل من أن يعوضهم‏,‏ إذ إنه بالرغم من ارتفاع معدل البطالة بينهم‏,

إن هناك نقصا شديدا في العمال المهرة أخذ في التزايد‏.‏ والتقاعد ظاهرة جديدة نسبيا في التاريخ البشري‏,‏ فمتوسط العمر منذ قرن مضي في جزء كبير من العالم المتقدم كان ستة وأربعين عاما فحسب‏,‏ وكان عدد قليل نسبيا من الاشخاص يعمر إلي مايكفي لأن يعيش فترة التقاعد‏,‏ كانت نسبة المسنين المعالين إلي السكان الذين هم في سن العمل تتزايد في العالم الصناعي علي مدي‏150‏ عاما علي الأقل‏,‏ وتباطأت سرعة الزيادة علي نحو ملحوظ مع مولد الجيل الذي جاء إلي الدنيا في الفترة مابعد الحرب العالمية الثانية‏.‏ ولكن من المؤكد تقريبا أن إعالة المسنين سوف تزداد بسرعة أكبر عندما يصل ذلك الجيل إلي سن التقاعد‏.‏ وسوف يكون التسارع ضخما علي نحو خاص في اليابان وأوروبا‏.‏

  استحقاقات الانقلاب

سيزداد عدد المسنين‏,‏ ولن يكونوا في بلدان العالم المتقدم متهدمي الصحة في نسبة كبيرة من مجموعهم الضخم‏,‏ كما أن الكثيرين منهم سيتميزون بمراكمة سنوات عدة من الخبرة في مواقعهم‏,‏ مما يرجح استمرارهم لسنين أكثر في وظائفهم‏,‏ بينما في الجهة المقابلة ستكون قوة العمل النامية صغيرة السن أقل خبرة وأبطأ نموا نظرا إلي تراجع نسبة الخصوبة وتقلص عدد المواليد الجدد في الاسر الحديثة‏,‏ وهذا يحمل في ثناياه استطالة فترة تقاعد كثير من المسنين‏,‏ وتقلص الوظائف الخالية أمام العاملين الجدد‏,‏ مما يزيد من نسب البطالة ـ المتزايدة أصلا لأسباب عدة أخري ـ لدي العاملين صغار السن‏.‏ وهذه الزاوية ستخلق نوعا من الصراع الاجتماعي بين الأجيال ينسف كثيرا من الاخلاقيات والتقاليد وليس هذا إلا الجانب المعنوي من المخاطر‏,‏ فهناك مخاطر ملموسة يجمعها كتاب جرينسبان تحت لافتة اقتصاد التقاعد فسوف يكون لحقائق الديموجرافيا الصعبة أثرها الشديد علي ميزان القوة الاقتصادية العالمي‏.‏

الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في المجتمعات العربية‏,‏ وعبور القيم خلال وسائل الإعلام العابرة للمجتمعات‏,‏ ونظم التعليم‏,‏ كل هذه معطيات تؤشر إلي اختلاف ماكان قائما من تقاليد أسرية واجتماعية‏.‏ والأرجح أن التوازن الديموجرافي العربي في اختلال غير مرصود‏.‏ ونحن نلمس بروز مشكلة التقاعد الآن وإن كان ذلك بأشكال ليست صارخة‏.‏ لكننا لانستطيع الجزم بما ستكون عليه في المستقبل‏,‏ في ظل ميل الأسر العربية للتقليل من عدد الأبناء في الأسرة‏,‏ إضافة إلي تأخر سن الزواج وارتفاع نسب العنوسة‏.‏ إذن سنواجه معضلة التقاعد‏,‏ وسنكون مطالبين بتسديد فاتورته‏,‏ سواء تجاه مجتمعاتنا المرشحة لبعض هذا التقاعد المستقبلي‏,‏ أو تجاه المجتمعات المتقدمة التي ستحل مشكلات تقاعدها بدفع اقتصاداتها نحو تطورات تقنية هائلة تعوض تآكل قواها العاملة‏,‏ وتزيد من عدوانيتها تجاه مواردنا‏,‏ بينما ترفع من أسوار وجدان حمايتها ضد التفاعل الإيجابي معنا‏,‏ سواء علي مستوي المعرفة والتقنية أو حتي استيراد بعض من شباب قوانا العاملة لقد أراد الرأس العجوز لرأسمال العالم‏,‏ آن جرينسبان‏,‏ أن يروي تجربته ويعرض استشرافاته من خلال خبرته الأمريكية العالمية‏,‏ لكنه من حيث لايدري قرع ناقوسا في واشنطن‏,‏ لتتردد رناته في كل الأنحاء‏.‏ فهل نسمع هذا الرنين‏,‏ ونفكر في المستقبل‏.‏ مستقبلنا‏,‏ أو بعض ماينتظرنا في المستقبل؟


 
   

شارك برأيك في هذا الموضوع

 

 
 

 

 

لأننا نفتقد، غالبا،  التخطيط للغد ونحيا الحياة يوما بيوم‏,‏ فإن تحولات العالم تفاجئنا

 

 

 

 

 

 

هذا العجوز حول الكتابة في موضوع شديد الوطأة كالاقتصاد‏,‏ إلي قصة بوليسية عبر تعقب الأرقام والتحليلات

 

 

 

 

 

 

إعالة المسنين سوف تزداد بسرعة أكبر عندما يصل ذلك الجيل إلي سن التقاعد‏.‏

 

 

 

 

 

 

معطيات عديدة  تؤشر إلى اختلاف ماكان قائما من تقاليد أسرية واجتماعية‏.‏

 

 

 

 
 
   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

un compteur pour votre site