لسنا استثناء في هذا العالم, وما سيحتاج إليه في المستقبل, لابد
أنه واصل إلينا, ولأننا نفتقد ـ غالبا ـ التخطيط للغد ونحيا الحياة
يوما بيوم, فإن تحولات العالم تفاجئنا, ونحن لها غير متأهبين,
هكذا دهمتنا أزمة غلاء أسعار الغذاء العالمي, ودهمتنا وتدهمنا
تغيرات المناخ. وإذا كان هذان المثالان مما لانستطيع معه ادعاء
القدرة المنفردة علي التدبير والتفكر, نظرا إلي أبعادهما
العالمية, فإن هناك أزمة قادمة لم نفكر فيها, أزمة ترتبط بالوضع
السكاني العربي المستقبلي, ولأننا لانملك معطيات عربية واضحة في
هذا الشأن, فإننا نفتح هذا الملف المستقبلي الخطير, في ضوء
معطيات الآخرين الذين يعيشون اللحظة, ويشغلهم المستقبل آلان
جرينسبان رجل بدا عجوزا منذ فترة بعيدة, منذ بدأ يظهر علي شاشات
التلفاز, ويرتبط بأخبار المال في العالم, بل مركز المال في
العالم, فهو شغل منصب رئيس مجلس إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي
الأمريكي لمدة عشرين عاما قبل أن يتقاعد في عام2006 م. وبعد
تقاعده ـ شأن معظم المسئولين وأهل الخبرة في العالم ـ أصدر كتابا
يحكي فيه عن تجربته, ويمد خيوط هذه التجربة ليتأمل أسئلة
المستقبل, وكان مدار التجربة المعيشية وتأملات المستقبل ـ علي
السواء ـ هي أمور الاقتصاد والمال, وهي أمور ثقيلة الظل بالنسبة
إلي عموم المثقفين, بل غير مفهومة لغير المتخصصين, لكن هذا
العجوز حول الكتابة في موضوع شديد الوطأة كالاقتصاد, إلي قصة
بوليسية عبر تعقب الأرقام والتحليلات من خلال قصة حياته وتقلبات
العام الذي عاش ويعيش فيه, وقد أسمي الكتاب ضخم الحجم عالم في
اضطراب من621 صفحة, ليصف الفترة التي عايشها والفترة التي يمد
بصره إلي آفاقها ولقد أثار الكتاب في ذهني شجونا عربية, وبالرغم من
أنه لايكاد يذكر العرب في كتابه, ومن بين ما أثاره موضوع المأزق
السكاني الذي أظن أننا غير منتبهين له, أو علي الأقل غير منتبهين
بالدرجة الكافية التي يستحقها مأزق بهذا التغلغل المحتمل, والضغط
الاخلاقي والاقتصادي والاجتماعي الذي لابد أن يصاحبه يقول جرينسبان
في كتابه هذا إن العالم المتقدم بأسره علي شفا هوة ديموجرافية غير
مسبوقة, ذلك أن جماعة ضخمة من العمال هم من ولدوا في فترة ما بعد
الحرب العالمية الثانية, علي وشك الانتقال من العمل المنتج إلي
التقاعد, وعدد العمال الأصغر سنا أقل من أن يعوضهم, إذ إنه
بالرغم من ارتفاع معدل البطالة بينهم,
إن هناك نقصا شديدا في العمال المهرة أخذ في التزايد. والتقاعد
ظاهرة جديدة نسبيا في التاريخ البشري, فمتوسط العمر منذ قرن مضي في
جزء كبير من العالم المتقدم كان ستة وأربعين عاما فحسب, وكان عدد
قليل نسبيا من الاشخاص يعمر إلي مايكفي لأن يعيش فترة التقاعد,
كانت نسبة المسنين المعالين إلي السكان الذين هم في سن العمل تتزايد
في العالم الصناعي علي مدي150 عاما علي الأقل, وتباطأت سرعة
الزيادة علي نحو ملحوظ مع مولد الجيل الذي جاء إلي الدنيا في الفترة
مابعد الحرب العالمية الثانية. ولكن من المؤكد تقريبا أن إعالة
المسنين سوف تزداد بسرعة أكبر عندما يصل ذلك الجيل إلي سن التقاعد.
وسوف يكون التسارع ضخما علي نحو خاص في اليابان وأوروبا.
استحقاقات الانقلاب
سيزداد عدد المسنين, ولن يكونوا في بلدان العالم المتقدم متهدمي
الصحة في نسبة كبيرة من مجموعهم الضخم, كما أن الكثيرين منهم
سيتميزون بمراكمة سنوات عدة من الخبرة في مواقعهم, مما يرجح
استمرارهم لسنين أكثر في وظائفهم, بينما في الجهة المقابلة ستكون
قوة العمل النامية صغيرة السن أقل خبرة وأبطأ نموا نظرا إلي تراجع
نسبة الخصوبة وتقلص عدد المواليد الجدد في الاسر الحديثة, وهذا
يحمل في ثناياه استطالة فترة تقاعد كثير من المسنين, وتقلص الوظائف
الخالية أمام العاملين الجدد, مما يزيد من نسب البطالة ـ المتزايدة
أصلا لأسباب عدة أخري ـ لدي العاملين صغار السن. وهذه الزاوية
ستخلق نوعا من الصراع الاجتماعي بين الأجيال ينسف كثيرا من
الاخلاقيات والتقاليد وليس هذا إلا الجانب المعنوي من المخاطر,
فهناك مخاطر ملموسة يجمعها كتاب جرينسبان تحت لافتة اقتصاد التقاعد
فسوف يكون لحقائق الديموجرافيا الصعبة أثرها الشديد علي ميزان القوة
الاقتصادية العالمي.
الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في المجتمعات العربية,
وعبور القيم خلال وسائل الإعلام العابرة للمجتمعات, ونظم
التعليم, كل هذه معطيات تؤشر إلي اختلاف ماكان قائما من تقاليد
أسرية واجتماعية. والأرجح أن التوازن الديموجرافي العربي في اختلال
غير مرصود. ونحن نلمس بروز مشكلة التقاعد الآن وإن كان ذلك بأشكال
ليست صارخة. لكننا لانستطيع الجزم بما ستكون عليه في المستقبل,
في ظل ميل الأسر العربية للتقليل من عدد الأبناء في الأسرة, إضافة
إلي تأخر سن الزواج وارتفاع نسب العنوسة. إذن سنواجه معضلة
التقاعد, وسنكون مطالبين بتسديد فاتورته, سواء تجاه مجتمعاتنا
المرشحة لبعض هذا التقاعد المستقبلي, أو تجاه المجتمعات المتقدمة
التي ستحل مشكلات تقاعدها بدفع اقتصاداتها نحو تطورات تقنية هائلة
تعوض تآكل قواها العاملة, وتزيد من عدوانيتها تجاه مواردنا,
بينما ترفع من أسوار وجدان حمايتها ضد التفاعل الإيجابي معنا, سواء
علي مستوي المعرفة والتقنية أو حتي استيراد بعض من شباب قوانا
العاملة لقد أراد الرأس العجوز لرأسمال العالم, آن جرينسبان, أن
يروي تجربته ويعرض استشرافاته من خلال خبرته الأمريكية العالمية,
لكنه من حيث لايدري قرع ناقوسا في واشنطن, لتتردد رناته في كل
الأنحاء. فهل نسمع هذا الرنين, ونفكر في المستقبل. مستقبلنا,
أو بعض ماينتظرنا في المستقبل؟ |