الآراء المنشورة في هذه المجلة لا تعبر بالضرورة عن حقائق نهائية. لذا تتعهد الإدارة بنشر  ما يردها من القراء حولها

كانون أول/ ديسمبر  2009

   

قصة الكون والحياة

الكـون - 1/3

 موسى ديب الخوري

   
 
 
 

 من أين جئنا؟ وما نحن؟ وإلى أين نمضي؟ تلكم هي حقاً الأسئلة الوحيدة التي تستحق عناء طرحها! لماذا نحيا، ولماذا وجد العالم ولماذا نحن هنا؟ كان الدين أو الإيمان أو المعتقد هو وحده حتى الآن الذي يقدم حلاً على هذه الإجابات. أما اليوم فقد كوّن العلم رأيه الخاص أيضاً الذي يعتبر ربما أحد أهم مكتسبات القرن العشرين، بل وربما المفتاح الحقيقي لفهم طريقنا المستقبلي وتحولنا النفسي والروحي. والحق أن العلم يعيد اليوم بناء أخلاقنا وأفكارنا وحياتنا وسلوكنا ونفسانيتنا وحضارتنا بل وروحانيتنا. ذلك أن العلم بات بملك منذ الآن سرداً كاملاً لأصولنا الكونية: لقد أعاد العلم بناء تاريخ الكون.

ما هو الشيء الخارق الذي اكتشفه العلم؟ إنه المغامرة نفسها المستمرة منذ 15 مليار سنة والتي توحّد الكون والحياة والإنسان مثل فصول ملحمة طويلة. إنه التطور نفسه الذي يدفع باتجاه تعقيد متنام منذ الإنفجار العظيم إلى الذكاء: الجسيمات الأولى فالذرات فالجزيئات فالنجوم فالخلايا فالعضويات فالكائنات الحية وصولاً إلى هذه الكائنات العجيبة التي هي نحن... إنها السلسلة ذاتها التي تدفعها الحركة عينها. نحن سليلو البشريات الأولى والكائنات الأولى بل والنجوم والمجرات. إن العناصر التي أسست أجسامنا هي نفسها التي كانت قد تفاعلت في باطن النجوم منذ أزمنة سحيقة! نحن حقاً أطفال النجوم كما يقول هوبرت ريفز!

لا شك أن هذه الفكرة تزعجنا بالتأكيد، فهي تعارض اليقينيات القديمة وتسلخ الأحكام المسبقة. لكن تقدمنا في المعرفة عبر الأجيال لم يكن إلا ليعيدنا إلى موقعنا الصحيح في الكون. كنا نعتقد أننا موجودون في مركز العالم، وجاء غاليليو وكوبرنيكوس وغيرهما ليرشدوننا: فنحن نسكن في الواقع كوكباً عادياً ككواكب كثيرة في الكون، ويقع في طرف مجرة متواضعة مثلها مجرات لا تحصى. فليس من سبب خارق يدعو الإله ليهتم بهذه الكرة الصغيرة اهتماماً خاصاً. كنا نعتقد بسبب هذا الإهتمام المفترض إننا كائنات فريدة بمعزل عن الأنواع الحية الأخرى. لكن للأسف! فقد وضعنا داروين على الشجرة المشتركة للتطور الحيواني. وعلينا في الواقع أن نبتلع مرة أخرة كبرياءنا القائم في غير محله: فنحن في الواقع لسنا آخر ما سينتجه التطور والتنظيم الكونيان!

قد يتساءل أحدهم قائلاً: «أين الله في هذا كله؟» إن بعض الاكتشافات تتلاقى أحياناً مع يقينيات حميمة، لكن الكثير منها ينقض ويقوض يقينيات حميمة أخرى أكثر من الأولى بكثير، والحق إن المعتقدات القائمة على مفاهيم كونية قديمة قد تم دحضها من وجهة نظر العلم. ولهذا فلن نخلط بين النوعين: فالعلم والدين لا يحكمان المجال نفسه. فالأول يتعلم، أما الثاني فيعلّم. الشك هو محرك الأول، في حين أن الإيمان واليقين هما لحمة الآخر. ومع ذلك فإن العلم لا يتجنب الأسئلة الميتافيزيقية، ولهذا فإننا نصادف خلال قصة العلم عن الكون، بعض الأساطير القديمة والرؤى الروحية وحتى سنلتقي بآدم وحواء في السافانا الأفريقية! لكنهما أقدم بكثير من آدم وحواء اللذين تحدثنا عنهما كتب الأولين، ويختلفان عنهما اختلافات جذرية. إنما العلم يحيي المناقشات ولا يقتلها، ويفتح الباب واسعاً دون إشراطات ليختار كل ما يناسبه على ضوء معطيات باتت أكثر تجانساً ومنطقية ووضوحاً وإنسانية بل وروحية .

تبدأ قصتنا عن الكون مع ما يسمى بالإنفجار الكبير منذ نحو 15 مليار سنة..لكننا سنرى إن مفهوم البداية يوصلنا إلى قلب النقاشات الميتافيزيائية القائمة في العقل البشري منذ عصور، بل ويطرح مسألة الزمن الشائكة. ومنذ هذه البداية تتراكب المادة المتوهجة تحت تأثير قوى مذهلة لا تزال تسهر على مصائرنا. فمن أين جاءت هذه القوى؟ ولماذا هي ثابتة في حين أن كل شيء يتغير من حولها؟ إنها توجه التطور الكوني وتولد مع ابتراد الكون النجوم والمجرات. فما هي هذه القوى؟ ومن أين تتولد هذه الحركة المتنامية نحو التعقيد والتي لا تقاوم؟ وهل هذه القوى سابقة للكون؟

ومنذ 5 مليارات سنة، وعلى كوكب جميل واعد على طرف مجرة عادية في الكون السحيق، تابعت المادة عملها الجنوني في التركيبات. فعلى سطح الأرض، وفي بوتقات جديدة، انطلقت خيمياء أخرى! فالجزيئات ارتبطت في بنى قابلة للتكاثر وولَدت قطرات غريبة ثم أولى الخلايا التي تجمعت في متعضيات راحت تتنوع وتتكاثر وتعمر الكوكب، وتطلق التطور الحيواني وتفرض قوة الحياة. لا شك أنه ليس من السهل بعد قرون من الأفكار الخاطئة حول ولادة الحياة قبول أن الحياة ولدت من الجماد. فقد اعتُبر العالم الحي لعدة قرون عالماً معقداً جداً ومتنوعاً جداً بل وذكياً جداً بحيث يصعب أن يظهر دون دفعة صغيرة من التيسير الإلهي. أما اليوم فالمسألة أصبحت محسومة: إن العالم الحي ناتج من تطور المادة نفسه، وهو ليس ثمرة الصدفة مع ذلك. فكيف تم المرور إذاً من الجماد إلى الحي؟ وكيف اختَرع التطورُ التناسلَ والجنسَ والموتَ بشكل متلازم؟

ومنذ نحو بضعة ملايين سنة، وفي مشهد جميل من السافانا الجافة، احتل التحول الأخير للكائن الحي المسرح كله. هوذا الإنسان الحق! إنه حيوان وثديي وفقاري، ورئيسي بالإضافة إلى ذلك. لقد بات من المؤكد من الآن فصاعداً أننا كلنا سليلو أنواع الأوسترالوبيثكوس والهوموإركتوس الإفريقية. فنحن أبناء هذا الكائن القديم الذي انتصب فيما مضى في إفريقيا وللمرة الأولى في تاريخ الحياة. ولكن لماذا قام بذلك، وأية غريزة حرضته على الانتصاب؟ منذ أكثر من قرن ونحن نعرف بالتأكيد قصة تطورنا البشري ونحاول مع ذلك قبوله بصعوبة. لكن علم الأصول والبدايات تفجر خلال السنوات الأخيرة هذه، واهتزت بشدة شجرة أنسابنا: فقد سقطت عنها حتى بعض الأنواع الشعرانية. ونحن اليوم نملك أخيراً وحدة زمانية ومكانية لنقدم هذا الفصل الثالث من مسرحية التطور الكوني بشكل وافي الحبكة، ألا وهو فصل الملهاة البشرية، وقصة هذا الكائن الذي ولد من تطور الكون وراح يطرح الأسئلة. وكما لو كان هذا الانسان قد استلم النوبة من المادة فقد استغرق بدوره نحو بضعة ملايين سنة ليتطور ويخترع أشياء أكثر فأكثر تعقيداً: الأداة والصيد والحرب والعلم والفن والحب، وهذه النزعة الغريبة للتساؤل حول نفسه الذي لا ينفك يتأكله. فكيف اكتشف هذه الابتكارات وكيف نما دماغه وتطور بلا توقف؟ وما مصير أسلافنا الذين لم يؤاتهم النجاح؟

الكـون

عندما نستحضر بداية الكون فلا بد أن نصطدم بالمصطلح. فكلمة بداية أو «أصل» الكون تشير بالنسبة لنا إلى حدث قائم في الزمان. لكننا لا نستطيع اعتبار بداية الكون مثل أي حدث شخصي، فهو بداية كل بداية. ويشبه تساؤلنا عن البداية الأولى أولئك الذين كانوا يتساءلون عما كان يفعله الله قبل أن يخلق العالم. وكان الجواب الشعبي إنه «كان يحضر الجحيم للذين سيطرحون على أنفسهم هذا السؤال!» وكان القديس أغسطينوس صاحب رؤيا نفاذة عندما كان يجيب بأن ليس لهذا السؤال معنى، إذ أن الخلق لم يكن فقط خلقاً للمادة بل وللزمان أيضاً. وهذا هو منظور العلم الحديث حيث لا انفصال بين المكان والزمان والمادة.

إن اعتبارنا لوجود أصل للكون قائم على ملاحظتنا لتطور الكون وتاريخه. وتثبت النظريات الحديثة أن تاريخ الكون يرجع إلى ما بين 10 و 15 مليار سنة. وكان الكون في بداياته غير منظم ولا توجد فيه مجرات ولا نجوم ولا حتى جزيئات وذرات. فلم يكن سوى عجينة من المادة ليس لها شكل محدد وتصل درجة حرارتها إلى مليارات مليارات الدرجات. وهذا ما دعي بالإنفجار الكبير. إن مفاهيمنا للزمان والفضاء والطاقة والحرارة تختلف كلياً عند هذه البدايات، حتى أننا لا نعرف أبداً ما كان يوجد قبل ذلك. ونحن لا نستطيع التأكيدبالتالي إذا كان ثمة شيء ما على الإطلاق قبل هذه البداية أم لا. وهكذا يمكن اعتبار الانفجار العظيم بداية تعرفنا على مفهومي المكان والزمان.

إن صورة الهباء البدئي تتلاقى بشكل عجيب مع الكثير من الأساطير التي تتحدث عن خلق العالم، وغالباً ما يمثَّل هذا الشواش أو الفوضى بالمياه أو بمحيط مغمور بالظلام. لكن البداية في علم الكونيات الحديث ترتبط بالحراة والنور أكثر منها بالبرودة والظلمة.

لقد تمكن العلماء بفضل تطور التلسكوبات خلال السنوات الماضية من رؤية ماضي الكون. إن سرعة الضوء تعتبر ضئيلة بالنسبة لاتساع الكون، وهو يقطع ملايين السنوات الضوئية حتى يصل إلينا من المجرات البعيدة. وهذا يعني أننا لا نستطيع أبداً رؤية الحالة الراهنة للكون. وكلما رجعنا في الماضي أكثر يصبح الكون عاتماً أكثر. وإلى ما وراء حد معين لا يعود الضوء قادراً على الوصول إلينا. ويوافق هذا الأفق فترة كانت درجة الحرارة فيها نحو 3000 درجة. ووفق الساعة الإتفاقية للانفجار الكبير كان عمر الكون قد بلغ نحو 300000 سنة.

وترتكز نظرية الانفجار العظيم مثل كل نظرية علمية على مجموعة من الأرصاد، كما وعلى منظومة رياضية هي النسبية العامة لأينشتاين. فقد استنتج إدوين هبل عام 1930 إن المجرات تتباعد عن بعضها بعضاً بسرعات تتناسب مع المسافات بينها. ويشير هذا التوسع إلى ابتراد تدريجي للكون. وتؤكد الأرصاد هذا الإبتراد، إذ كلما أوغلنا أكثر في ماضي الكون، أي نظرنا أبعد فأبعد فيه، أصبح الكون أكثر كثافة وحرارة، حتى نصل إلى لحظة كانت تصل فيها الحرارة والكثافة إلى قيم هائلة منذ نحو 15 مليار سنة، وهذا ما ندعوه بالإنفجار الكبير. لكن توسع الكون لا يعني مطلقاً إنه كان أصغر مما هو عليه الآن، بل يمكننا القول إن الكون كان لانهائياً وتوسع في لانهائيته. ومن البراهين الأخرى على الإنفجار العظيم عمر الكون نفسه الذي يقاس من خلال حركة المجرات أو أعمار النجوم أو أعمار الذرات. وفي كافة الحالات نجد أعماراً تتقارب من 15 مليار سنة. وتعتمد قياسات عمر الكون على أحافير فيزيائية مثل الإشعاع الاحفوري الذي بقي من الضوء الهائل في بدايات الكون عندما كانت درجات الحرارة عالية جداً. إن الأساسيات التي تبنى عليها النظريات الحديثة في التطور الكوني اليوم هي أن الكون ليس سكونياً، وأنه لم يخلق كاملاً وعلى صورة منتهية، وأنه يبترد ويقل كثافة. وبشكل خاص فإن المادة تنتظم فيه تدريجياً. وهذا يعني أن صيرورة ديناميكية خلاقة لا تزال تخلق كوننا من البسيط إلى المعقد.

كن الكون يتكون إذن في بدايته من جسيمات أولية هي الإلكترونات والفوتونات والكواركات والنيوترينوات، إضافة إلى الغرافيتونات والغليونات. وهكذا تجمعت هذه البنى الأولية في تشكيلات أكثر تعقيداً. فالكواركات مثلاً تجمعت في بروتونات ونيوترونات. وتم ذلك خلال الأجزاء الأربعين الأولى من الألف من الثانية، وهي اللحظة التي نزلت فيها الحرارة إلى 1012 درجة. أما الذي حرض الكون على الانتظام من حالة الهباء الأولى هذه فكانت القوى الأساسية الأربعة، وهي التي أشرفت فيما بعد على تجميع الذرات والجزيئات والبنى السماوية الكبرى. فالقوى النووية تربط النوى الذرية؛ والكهرمغنطيسية تؤمن التحام الذرات؛ وقوة الجاذبية تنظم الحركات الكونية على مستوى النجوم والمجرات؛ أما القوة الضعيفة فتتدخل على مستوى النيوترينوات. لكن الحرارة كانت تفكك كل شيء في اللحظات الأولى وتمنع تشكيل البنى، ولهذا كان يجب أن يبترد الكون قليلاً لتولد أولى البنى المركبة. أما لماذا وجدت هذه القوى أصلاً فأمر لا تفسير له حتى الآن. إننا نعلم اليوم أن هذه القوى موجودة هي نفسها في كل مكان، وأنها لم تتغير أبداً منذ الإنفجار العظيم وحتى الآن. وإضافة إلى أن هذه القوانين لا تتغير فأن أشكالها الجبرية وقيمها العددية تبدو بشكل خاص مضبوطة تماماً. فلو كانت هذه القوى مختلفة بدرجة طفيفة جداً لما كان الكون خرج أبداً من شواشه البدئي. وهذا يعني بشكل من الأشكال أن التعقيد والحياة والوعي كانوا في حالة كمون منذ اللحظات الأولى للكون.

كذا فقد عملت القوة النووية الشديدة على تجميع الكواركات ثلاثا ثلاثاً لتشكيل النويات. وبعد فترة بسيطة حرضت القوة النووية الشديدة هذه البنى لتشكل بدورها تجمعات من بروتونين ونيوترونين فظهرت أول نواة ذرية. وقد هبطت درجة الحرارة عندها إلى 10 مليارات درجة مئوية وكان عمر الكون قد بلغ دقيقة واحدة. وقد ابترد الكون بعد دقائقه الأولى، فكبح من جديد نشاط القوة النووية، وكان تركيب الكون حينئذ 75 % من نوى الهيدروجين و25 % من نوى الهليوم. ولم يحدث شيء من ثم على المستوى التنظيمي لعدة مئات آلاف من السنين. والحق أن التعقيد لا يتقدم بخطى منتظمة. وعندما هبطت الحرارة تحت 3000 درجة دخلت القوة الكهرمغنطيسية. فوضعت الإلكترونات في مدارات حول النوى وخلقت بذلك أولى ذرات الهيدروجين والهليوم. وأدى اختفاء الإلكترونات الحرة إلى جعل الكون شفافاً. فلم تعد الفوتونات تتأثر بالمادة الكونية وتاهت في الفضاء وتحللت تدريجياً إلى طاقة. وهي لا تزال موجودة اليوم بعد أن شاخت مشكلة الإشعاع الأحفوري الكوني. ومر التطور الكوني بعد ذلك باستراحة ثانية لينطلق من جديد بعد مائة مليون سنة. وكانت الجاذبية هي بطلة هذه المرحلة. فبتأثيرها بدأت المادة التي كانت منتظمة التوزع بالتجمع. وهكذا ولدت نوى المجرات. وهكذا لم يعد الكون يظهر بشكل حساء متجانس، بل أصبح فضاء شاسعاً وقليل الكثافة تسبح فيه الجزر المجرية الرائعة. وتكاثفت المادة في قلب هذه المجرات بتأثير الجاذبية لتشكل النجوم. وحرَّض ذلك إزدياداً في درجات الحرارة فأفلتت النجوم من الابتراد العام الذي استمر حولها. فسخنت النجوم وأطلقت الطاقة وبدأت باللمعان. واستنفد أضخمها الذي تساوي كتلته خمسين ضعف كتلة الشمس وقوده الذري في ثلاثة أو أربعة ملايين سنة. وعاشت النجوم الأقل ضخامة مليارات السنين. إن الجاذبية تفسر أيضاً دوران الأجرام حول بعضها. لقد فسر نيوتن دوران القمر حول الأرض، ونعرف اليوم أن الشموس لا تقع على بعضها أيضاً بسبب دورانها حول المجرات. أما المجرات فيكمن عدم وقوعها على بعضها في توسع الكون العام. ويميل العلماء إلى أن الكون سيستمر في التوسع حتى يبترد ويتحول إلى طاقة ميتة.

كان يمكن للكون أن يبقى بعد نحو مليار سنة على هذه الحال: صحراء لانهائية مع جزر موزعة هنا وهناك من المجرات ذات النجوم. لكنه انطلق في مرحلة تطورية جديدة. وكانت النجوم هي التي استعادت شعلة المسيرة. ففي حين كان الكون يتابع ابتراده كانت النجوم تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في درجات الحرارة. إن محرض التسخين هو انكماش النجم بتأثير ثقله الخاص. وعندما تبلغ درجة الحرارة 10 ملايين درجة تستيقظ القوة النووية من جديد. وكما في الإنفجار العظيم تندمج البروتونات لتشكل الهليوم. وعندما ينفذ الهيدروجين يتحول الهليوم إلى وقود النجم. وعندها تبدأ اندماجات لم تكن معروفة سابقاً في الكون، فتتجمع ثلاث ذرات هليوم في ذرة كربون وأربع ذرات هليوم في ذرة أكسجين. وهكذا أمتلأ مركز النجوم خلال ملايين السنين التالية بنوى الكربون والأكسجين. ويستمر النجم خلال ذلك بالإنكماش، فينهار قلبه على نفسه في حين يتمدد غلافه بسرعة متحولاً إلى عملاق أحمر. وعندما ترتفع درجة حرارته أكثر من ذلك فإنه يولد نوى ذرات أثقل من الحديد والزنك والنحاس والذهب وحتى اليورانيوم. لقد أنتجت النجوم عناصر الطبيعة. ومع انهيار النجم على نفسه تدخل نوى الذرات في تماس مع بعضها وترتد مما يحرض موجة صدم هائلة تؤدي إلى انفجار النجم. وذلك ما نسميه بالمستعر الفائق الذي يضيء السماء مثل مليار شمس. وعندها تُقذف المواد الثمينة التي أنتجها النجم في باطنه طيلة مراحل وجوده إلى الفضاء. هكذا تموت النجوم الكبيرة، أما الأصغر كشمسنا فتموت بهدوء أكثر. وتهيم الذرات المنقذفة في الفضاء ما بين النجمي وتمتزج بالسحابات الكبيرة المتناثرة في الفضاء. ويصبح الفضاء بالتالي مختبراً حقيقياً للكيمياء. فبتأثير القوة الكهرمنغنطيسية تتوضع الإلكترونات حول النوى الذرية لتشكيل الذرات التي تتحد بدورها في جزيئات. ونجد بينها الماء والأمونياك والكحول الأتيلي. إنها الذرات نفسها التي ستتحد على الأرض فيما بعد لتشكل العضويات الحية. نحن مجبولون حقاً من غبار النجوم كما يقول هوبرت ريفز!

لقد عملت قوة الجاذبية على تجميع السحب ما بين النجمية لتولد منها نجوماً جديدة. ومن بقايا هذه السحب تشكلت مجموعات كوكبية كالمجموعة الشمسية. وقد اشتملت هذه الكواكب على الذرات التي ولدتها النجوم الميتة. وخلال عشرات مليارات السنين اختلطت أجيال النجوم في الكون من الفتي إلى الهرم. ويتشكل وسطياً حتى الآن ثلاثة نجوم في السنة في مجرتنا. وهكذا، وُلد على طرف مجرة حلزونية هي درب التبانة نجم يهمنا بشكل خاص في قصتنا، هو شمسنا، منذ 4,5 مليار سنة. إنها نجم متوسط تماماً في مجرتنا. ويشبهها نحو مليار نجم فيها تماماً. وكانت شمسنا عندما ولدت أكبر بكثير مما هي عليه الآن. لقد تم قياس عمر القمر بدقة وكذلك عمر بعض النيازك، وتبين أن القيم متقاربة جداً وتساوي 4,6 مليار سنة. فقد ظهرت الشمس مع كواكبها في الوقت نفسه، وكان عمر مجرتنا عندها نحو ثمانية مليارات سنة. لقد تجمع الغبار الكوني حول النجوم الوليدة ليشكل أقراصاً تشبه حلقات زحل. وقد تكاثفت هذه الأقراص شيئاً فشيئاً لتشكل بنى صخرية ذات حجوم متزايدة باستمرار. وبنتيجة تصادمها تشكلت كتل كبيرة هائلة ذات حرارة عالية. وقد تطلب الأمر وقتاً طويلاً لتبديدها بحسب حجم الأجسام. ولا تزال الأرض تحفظ في قلبها نار جمر تحرض حركات الحمل الحراري للحجارة التي لا تزال سائلة. وهذه الظاهرات التي تعود إلى تشكل الكوكب هي سبب إنزياحات القارات وثوران البراكين والهزات الأرضية. لكن هذا اللاإستقرار الجيولوجي ثمين جداً لأنه يؤدي إلى تغيرات المناخ التي تلعب دوراً هاماً في تطور الكائنات الحية.

لقد لعب الماء السائل دوراً أساسياً في تتمة التطور الكوني. فكوكبنا هو الوحيد الذي يحوي ماء سائلاً في مجموعتنا الشمسية. وكان المريخ يحوي هذا الماء أيضاً منذ مليار سنة، لكن جاذبيته لم تكن كافية للحفاظ على الغلاف الجوي والدفيئة الكافية لتطور الحياة عليه. أما الزهرة فكانت بدايتها تشبه الأرض كثيراً. وعلى الرغم من أنها تحوي الكمية نفسها من غاز الفحم، لكن وجود الماء على سطح الأرض ساعد على انحلال الكربون في المحيطات، بينما لعب قرب الزهرة من الشمس دوراً أساسياً في تشكيل دفيئة حارة جداً أدت إلى تطوره بشكل مختلف تماماً عن الأرض. لقد لعب الماء السائل دوراً جوهرياً في ظهور التعقيد الكوني. كذلك لعب الكربون دوراً هاماً جداً. فهو الذرة المثالية من أجل بناء الجزيئات. فهو يملك ما يشبه الخطافات الأربعة التي تلعب دور المفصل بين العديد من الذرات. كما أن الروابط التي يخلقها مرنة بدرجة كافية للعبة الربط والتفكيك السريعتين والضروريتين لظاهرة الحياة. ولهذا فمن المرجح أن تكون ظاهرة الحياة في الكون قائمة بشكل أساسي على وجود الماء والكربون. وهما متوفران بكثرة في أرجاء الكون اللانهائي.

لم تكن درجة حرارة الأرض ملائمة لظهور الحياة في بداية تشكلها. إضافة إلى ذلك كان قذف النيازك والمذنبات فائق العنف. وقد حملت المذنبات إلى سطح الأرض خلال المليار سنة الأولى كميات كبيرة من الجزيئات المعقدة إضافة إلى الماء. وهكذا أصبح التطور الكوني جاهزاً لبدء مرحلة جديدة وحاسمة على سطح كوكب لا يشكل سوى هباءة في محيط الكون الرهيب. إن جزءاً بسيطاً جداً من بروتونات بداية التاريخ شكل الذرات الثقيلة. وعدد صغير جداً من الجزيئات البسيطة انتظم في جزيئات معقدة، وقسم ضئيل فقط من هذه الجزئيات المعقدة سيشارك في بنى الحياة.

الفصل التالي - الحياة

 
 
 

أرسلوا هذه الصفحة للأصدقاء


عودة إلى صفحة العلوم

عودة إلى الصفحة  الرئيسية

حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ

مدن محظورة   2009      modon net