الآراء المنشورة في هذه المجلة لا تعبر بالضرورة عن حقائق نهائية. لذا تتعهد الإدارة بنشر  ما يردها من القراء حولها

كانون أول/ ديسمبر  2009

   

قصة الكون والحياة

الحياة - 2/3

 موسى ديب الخوري

   
 
 
 

 إن فكرة الاستمرارية بين تطور المادة وتطور الحياة هي فكرة حديثة. فالحياة قادرة على التكاثر والتطور أما المادة فجامدة وغير قادرة على التناسل. إلا أنه لم يكن معروفاً في الماضي أن الجزيئات مكونة من ذرات، ولا أن الخلايا مكونة من جزيئات. ولذلك كان يتم تفسير ظهور الحياة على الأرض من خلال صدفة خارقة أو من خلال إرادة الإله. وتلك في الواقع طريقة لإخفاء الجهل. فقد أثبت العلماء منذ عدة سنوات فقط إن الحياة نتجت من تطور المادة الطويل نفسه. ومسيرة الكائن الحي ترجع إلى التاريخ الطويل من صيروة التعقيد في الكون منذ الإنفجار الكبير. لقد تحدث جاك مونو عن «الضرورة»: ففي ظروف معطاة تولِّد القوانين التي تنظم المادة منظومات أكثر فأكثر تعقيداً. وهكذا يكون ظهور عضوية حية محتملاً جداً على مدى الزمان الطويل. وهذا يعني أن الحياة ليست حكراً على الأرض فقط، بل هي ظاهرة شائعة في الكون. فلكل كوكب في الكون فيه ماء ويوجد على بعد أمثلٍ عن نجم حار إمكانية مراكمة جزئيات معقدة وكريات صغيرة تتبادل المواد الكيميائية مع وسطها. وهكذا، من ضرورة إلى ضرورة يصل التطور الكيميائي إلى الكائنات الحية الأولية. وهكذا فقد تم التغلب على الفكرة التي كانت سائدة بأن الحي ولد بنتيجة مصادفة أشبه بالمعجزة. لقد توقف باستور عند فكرة أن الحي يولد تلقائياً من المادة، في حين نعرف اليوم أن الساكن يولد الحي تدريجياً (وليس تلقائياً) عبر مليارات السنين. وكان داروين هو الذي أدخل مفهوم الزمن الضروري لتطور الحياة. وقد تم إثبات أن الحياة هي سليلة المادة في المختبر. فنحن نعرف الآن المراحل كلها التي قادت الجزيئات على الأرض البدئية إلى مرحلة الكائنات الحية الأولى، ويمكن إعادة إنتاجها جزئياً في المختبرات!

لقد كسر البيوكيميائي السوفييتي ألكسندر أوبارين والإنكليزي جون هالدين الحلقة المفرغة بين المادة والحي عندما تحدثا عن الظروف البدئية على الأرض. فالجو لم يكن يحوي الآزوت والأكسجين، بل مزيجاً غير مضياف للحياة من الهيدروجين والميتان والأمونياك وبخار الماء، لكنه كان ملائماً لظهور الحياة. وفي الخمسينات استعاد الفرنسي تلار دو شاردان السابق لعصره أيضاً فكرة تطور المادة التي وضعها داروين، وتحدث عن «ما قبل حياة»، وهي مرحلة انتقالية بين الجامد والحي كان يمكن أن تنتج خلال حقب الأرض البدئية. وقد جاء الإثبات المخبري على يد ستانلي ميلر عام 1952. فقد وضع في حوجلة غازات الأرض البدئية، الميتان والأمونياك والهيدروجين وبخار الماء مع قليل من غاز الفحم، وماثل المحيط بماء الحوجلة وسخنه ليعطي الطاقة، وحرض الشرارات في الحوجلة عوضاً عن البرق لمدة أسبوع. وعندها ظهرت مادة حمراء برتقالية في قعر حوجلته! وكانت تشتمل على حموض أمينية، الجزيئات التي تكون مركبات الحياة الأولى! والحق إن الأرض كانت على بعد كاف من الشمس لتلقي أشعتها تحت الحمراء وفوق البنفسجية القابلة لإطلاق التفاعلات الكيميائية، وعلى درجة كافية من البعد كي لا تحترق النواتج المصنعة. وهكذا ينشأ توازن عبر لعبة الولادة والموت. فظهور الحياة على الأرض لم يكن بنتيجة مصادفة سعيدة بل في الواقع لأن أولى مركبات الحياة الأرضية تكيفت مع الحرارة وكيفتها على الأرض بالتالي مع مرور الوقت بحيث تكون في أفضل مستوى ملائم لبقائها وتكاثرها.

إنه نوع من الانتظام الذاتي. ففي فجر الأرض، منذ نحو أربعة مليارات سنة، كان كوكبنا يملك نواة من السيليكات وقشرة من الكربون وغلافاً جوياً من مزيج غازي من الميتان والأمونياك والهيدروجين وبخار الماء وغاز الكربون. وتحت تأثير الأشعة فوق البنفسجية الشمسية والبروق تكسرت هذه الجزيئات وتحللت وسقطت على شكل عناصر أكثر تعقيداً على الكوكب. إنها أولى الجزيئات التي نسميها «عضوية». وقد أمطرت هذه الجزيئات العضوية خلال أكثر من 500 مليون سنة، مع الزخات الناجمة عن تكاثف بخار الماء في طبقات الجو الباردة. ومنذ ذلك الحين تحددت صفتان أساسيتان للعالم الحي: تركيبه الكيميائي ومصدر طاقته أي الشمس.

لقد اكتشف علماء الفيزياء الفلكية وجود جزيئات عضوية في كل مكان تقريباً في الكون. فمنذ خمس عشرة سنة تعرفوا على سبعين منها؛ فهذه الظاهرة لم تكن استثنائية في الكون. وفي المطر الكوني الذي روى الأرض في فجر تشكلها كان ثمة حموض أمينية وحموض دسمة وطلائع الشحوم. ويبدو أن جزيئين هما حمض النمليك وحمض السيانيد لعبا دوراً هاماً في تلك المرحلة: فعند تعرض هذين الحمضين للأشعة فوق البنفسجية فإنهما يولدان إثنين من «الأسس» الأربعة التي ستشكل فيما بعد الحمض الريبي النووي DNA حامل الوراثة. ولم يولد الغلاف الجوي للأرض هذه الجزيئات المعقدة فقط بل وحماها أيضاً بتشكيل غطاء لها. وكانت هذه الجزيئات ستضيع لو بقيت معلقة في الهواء الطلق. وفيما بعد استفادت الخلايا الأولى على العكس من الشمس لتنتج الأكسجين، وأعطى الأكسجين الأوزون في طبقة الجو العليا فحماها بدوره من الأشعة فوق البنفسجية. وهكذا أمنت الحياة بقاءها واستمرارها.

تشبه قصتنا حتى الآن لعبة تجميع المكعبات، وتشكيل سلاسل عملاقة من الجزيئات. لكن متى بُعثت الحياة وكيف؟ لقد لعبت البحيرات الشاطئية والمستنقعات دور البيئة الملائمة لذلك. فهي أماكن جافة وحارة في النهار ورطبة وباردة في الليل. وفي هذه الأماكن يوجد الطين والكوارتز اللذان ستقع سلاسل الجزيئات في فخهما فيتحد بعضها ببعضها الآخر. فالطين يعمل عمل مغنطيس صغير بالنسبة للأسس التي تشكلت منها أولى الحموض النووية. فأيوناته أي ذراته التي فقدت إلكتروناتها تجذب المادة من حولها وتحرضها على التفاعل. وأدى ذلك إلى ظاهرة جديدة. فبعض الذرات محب للماء ولهذا فهو يجذبه، في حين أن بعضها الآخر كاره للماء وهو بالتالي يبتعد عنه. وهكذا فقد تجمعت البروتينات الوليدة في البحيرات الشاطئية على بعضها مما جعلها على تماس مع الماء الخارجي أو بمعزل عنه داخلياً. وهكذا انغلقت على نفسها. وظهرت في ذلك الوقت كريات كالأغشية في المحيطات. وكانت هذه المرة الأولى التي يظهر فيها شيء ما منغلق على نفسه، له داخل وخارج كما كان يقول تلار دو شاردان. وفي هذه البنى تشكلت أوساط معزولة عن الوسط الخارجي وحبست في داخلها المواد الكيميائية التي شكلت خلائط خاصة بها وحدها. ففي بعض الأحيان يفجر الخليط الكيميائي الداخلي الغشاء فتتبدد الجزيئات في المحيط، وفي أحيان أخرى يساهم هذا الخليط على العكس في تدعيم غشائه ويؤمن بذلك استمرار المنظومة. ومع الإنتقاء الطبيعي بقيت القطرات التي كانت تملك وسطاً كيميائياً داخلياً متكيفاً مع البيئة. وكان للقطرات التي تستطيع إنتاج الطاقة أفضلية على القطرات الأخرى لأنها تسمح لها بالنمو. وكان بعضها يستخدم لنموه مواد من الخارج تمر عبر غشائه: إنها بواكير تفاعلات التخمر. أما بعضها الآخر الذي حفظ المواد الملونة أي الخضاب أو الجزيئات القادرة على أسر الضوء، فكان يحول الفوتونات الشمسية إلى إلكترونات. وبذلك فقد تفوقت على القطرات الأخرى لأنه مع افتقار المحيط الخارجي بالمواد كانت هذه القطرات مستقلة ذاتياً عنه. وكانت المرحلة الحاسمة التالية التي اجتازتها الحياة في بدايتها هي خيار البقاء عبر التكاثر. لقد تم البرهان حديثاً أن الحمض الريبي النووي منقوص الأكسجين RNA يملك خاصة عجيبة: فهو يستطيع التكاثر ذاتياً. فإذا انقسمت قطرة إلى قطرتين وكانت الثانية تملك نسخة من الحمض الرسول فسيمكنه بناء غشاء مطابق ومنظومة مطابقة. وتلكم منظومة التكاثر الذاتي في حالتها البدائية. ويمكن القول إن هذه القطرات التي استطاعت البقاء على حياتها كانت أولى أشكال الحياة هذه. فالعضوية الحية هي عموماً المنظومة القادرة على تأمين انحفاظها الخاص، وتدبير نفسها بنفسها والتكاثر. وقد استطاعت هذه القطرات الحية أن تحول الـ RNA إلى DNA الأكثر استقراراً. ومن خلال تراكيب سلاسل البروتينات والـ DNA وصلت الطبيعة إلى طور المورثات. وهكذا انتشرت قطرات الـ DNA هذه في الأرض بسرعة هائلة. وخلال سنوات قليلة انقسمت الخلايا وفق متتالية أسية ليصل عددها إلى كميات هائلة. ولم يكن ثمة شيء على الأرض حينها يستطيع مقاومتها أو تدميرها. أما اليوم فإن ظهور نمط جديد للحياة على الأرض بالطريقة نفسها سيقابل بالتدمير الفوري من قبل الكائنات الحية الحالية. لقد وصلت الطبيعة إلى هذه المرحلة دون قصد وعن طريق الاختبار والحذف والانتقاء عبر ملايين السنين.

لقد تطورت بعض القطرات وفق آليات التخمر. فحررت في البداية كميات كبيرة من الميتان وغاز الفحم اللذين انحلا في المحيطات. ولا تزال هذه الآلية موجودة اليوم: في أجواف المجترات مثلاً حيث تقوم البكتريا بالتخمير بغياب الأكسجين. لكن التطور كان سيسلك طريقاً أكثر فاعلية. ذلك أن التركيب الضوئي والتنفس كانا على وشك الظهور. ويرتكز الأول على اليخضور، والثاني على الهيموغلوبين. وقد حدث عندها افتراق بين هذين الصنفين. فمن جهة القطرات التي تصنع الطاقة مباشرة، وذلك عن طريق الضوء الشمسي الراشح في المحيطات وغاز الكربون الذي تحرره الخمائر (هذا هو التركيب الضوئي)؛ ومن جهة أخرى القطرات التي تمتص المواد الغنية بالطاقة والأكسجين الذي يطرحه غيرها (وهذا هو التنفس)، ويكون عليها بالتالي الانتقال من أجل إيجاد غذائها. ذلك هو الإفتراق بين البكتريا المستقبلية والعوالق المستقبلية، بين العالم الحيواني والعالم النباتي.

وتقد تابعت هذه القطرات تطورها فتزودت بنوى. ووفق النظرية الحديثة جداً فقد عاشت أنواع الخلايا متكافلة مع بعضها. واكتملت هذه العضويات فيما بعد باكتساب سوط أو هدب يسمح لها بالانتقال. وهذه الخلايا ذات النوى والمتحركة كانت خلايا قناصة تملك في أغشيتها فتحة وأهداباً هزازة تجتذب البكتريا والعوالق ثم تلفظ فضلاتها. لقد عرفت الطبيعة كافة أشكال التطورات الممكنة الأخرى للخلايا. لكن الحياة أقصت كافة السبل غير القابلة للتكيف. وقد لعب الزمن دوره هذه المرة أيضاً. فهو يتقلص أو يتمدد تبعاً لمراحل التطور. إنه ظهور جزيء تفاعلي جداً يركز الزمان ـ المكان: فهو يستطيع اجتياح بيئته الخاصة والتخلص في وقت قصير جداً من الجزيئات الأخرى التي استغرقت آلاف السنين لتتطور. إن الدراسات الحديثة وفهم آليات التطور هذه فتح الباب عريضاً أمام باحثين يعملون حالياً في مختبراتهم على تطوير ما يسمونه بالحياة الصنعية، في محاولات لإعادة تمثل احتمالات تطور الخلايا الأولى. إنها متتالية من التفاعلات التي تقود إلى تفاعلات لاعكوسة وإلى خصائص جديدة. هكذا بني التاريخ الذي نوجد اليوم عند نهايته. ويؤكد جويل دو روني أن المصادفة لا تلعب هنا أي دور. فإذا بدت هذه القصة خارقة فلأننا موجودون هنا لنحكيها. لقد كان هناك ملايين من قصص الجنود الذين انتهوا بشكل مأساوي، لكن أحداً لم يخبر بقصصهم لأنهم لم يعودوا موجودين ببساطة. وكم وكم من المحاولات النادرة توصلت إليها الحياة ولم تستمر ولا نعرف عنها شيئاً اليوم. إن تاريخنا هو السرد الوحيد الذي نستطيع إعادة تشكيله،ولهذا فهو يبدو خارقاً إلى هذا الحد.

عند هذا الحد من قصتنا كانت تعمر الأرض خلايا تحيا بسلام  في المحيطات. وكان يمكن لهذا النمط من الحياة أن يستمر. فما الذي بعث التطور الحيوي من جديد باتجاه التعقيد؟ لقد سممت هذه الخلايا نفسها بالفضلات التي كانت تطرحها. وكان لا بد لها من التجمع لأسباب كثيرة والعيش في تجمعات متكافلة لتقاوم افتقار البيئة أو فسادها أو القناصة إلخ. وهكذا أدت الحياة الجماعية إلى ولادة أولى أشكال متعددات الخلايا البسيطة. إنها أولى العضويات البحرية من ديدان واسفنجيات وغيرها. لقد تم هذا التطور خلال عدة مئات آلاف السنين فقط، وبعدها بدأ التطور يتسارع. وشيئاً فشيئاً تصبح القصة مألوفة لنا أكثر فأكثر؛ فلدينا منذ الآن كائنات نعرف سلالاتها أو أحافيرها. وكان التطور التالي بالتأكيد هو الجنس. لقد نمت شجرة الحياة وتفرعت في ثلاثة فروع رئيسية هي: فرع الفطريات والسرخسيات والطحالب والنباتات الزهرية؛ وفرع الديدان والرخويات والقشريات والعنكبوتيات والحشرات؛ وفرع الأسماك والزواحف وحبليات الظهر ثم الطيور والضفدعيات والثدييات...لقد ولد الجنس وفق إحدى النظريات من الكائنات التي تأكل أفراد نوعها. فعندما تأكل الخلايا بعضها بعضاً يمكن أن تندمج فيها مورثات أنواع أخرى. وكانت هذه الظاهرة موجودة عند البكتريا. ومع ازدياد تعقيد العضويات أصبحت مزودة بخلايا متخصصة بالتكاثر، هي الخلايا الإنتاشية التي يحتوي كل منها على نصف خلايا مورثات عضويته، وهكذا تعمم الجنس.

 

وبفضل الجنس أمكن للطبيعة أن تخلط مورثاتها، وهكذا انفجر التنوع. وبدأت مغامرة التطور البيولوجي الكبرى. وقد شهدت عدداً لا يحصى من التجارب المخفقة والأنواع التي لم تستمر. وكانت الظاهرة الهامة الثانية التي اندرجت في بنية العضوية هي آلية الزمن، أي الشيخوخة والهرم والموت. والموت هام بمقدار التكاثر نفسه. فهو يعيد الذرات والجزيئات إلى دورة الطبيعة وبفضله تتمكن الحياة من التجدد. وبعد أن عرف الكائن الحي الجنس والموت بدأ يطور قدراته. فباستخدام السكريات أغنى استقلابه وطور عضلاته مما سمح له بالحركة والعمل والسباحة والطيران والركض وإعمار العالم. وفي الوقت نفسه عملت اللواقط التي هي الحواس على تنسيق نشاطات العضوية. وهكذا ظهرت ثلاثة تطورات كبرى حديدة: النظام المناعي الذي يؤمن الحماية ضد الطفيليات والفيروسات؛ والنظام الهرموني الذي يسمح بالسيطرة على الإيقاعات البيولوجية والتناسل الجنسي؛ والنظام العصبي الذي يحكم الإتصالات الداخلية. وقد ظهرت هذه المنظومات الثلاث ما أن خرجت الحيوانات من الماء.

 كان الذي دفع إولى الكائنات المائية إلى اليابسة هو المنافسة الشديدة على الغذاء. ولهذا كان ثمة نوع غامر باتجاه اليابسة للحصول على غذائه ثم العودة إلى المياه لوضع البيوض فيها. وعلى مر الأجيال جازفت سلالات هذا النوع بالبقاء أكثر على اليابسة بفضل خياشيمها القادرة على التقاط الأكسجين؛ بل وأيضاً بفضل دموعها، إذ كان عليها المحافظة على عينيها رطبة للرؤية في الهواء. وكان أنسال هذا النوع هم الضفدعيات والبرمائيات. والحق أننا ما كنا لنكون لولا دموع هذه السمكة.

وقد يسر الهواء الطلق الحركة والاتصال والتطور. ومع ظهور الهيكل العظمي أصبحت الحيوانات أقدر على التغلب على الجاذبية. وسمح لها اختراع العضلات بالتخلي عن كونها عجائن من الهلام الرخو مثل الديدان، بل وبممارسة ضغط آلي على بيئتها، وبتحمل وزن الشحوم الحامية لها والدماغ. وهكذا فقد تنوع كل شيء: الاستقلاب ومنظومات الحركة والأشكال...وبشكل مواز تم خلال هذا الوقت عند النبات انتقاء منظومات لأسر الطاقة الشمسية بواسطة الأوراق ولنقل الطاقة بواسطة النسغ. وعلى الرغم من بساطة الحياة النباتية الظاهرية لكنها تطورت وفق أنظمة معقدة تظهر بخاصة في نظامها التكاثري.

وقد شهد تطور الحياة تسارعاً ثابتاً، لكنه مر أيضاً بفترات انقراض كبير وبطرق مسدودة. فمنذ مائتي مليون سنة كانت الديناصورات تسود الأرض بأنواعها الصغيرة والكبيرة والعاشبة واللاحمة والراكضة والطائرة والبرمائية. وقد انقرضت بسبب نيزك هائل قطره خمسة كيلومترات سقط في خليج المكسيك منذ نحو 65 مليون سنة. وكانت الصدمة عنيفة إلى حد أنها ارتدت من الجانب الآخر للكوكب وحرضت تفجر الصهارة. وأدى ذلك إلى حريق عالمي مما حرر غاز الفحم والغبار فتغطت الأرض بحجاب شاسع. وتعتم الكوكب ونجم عن ذلك برد رهيب رافقه بعد ذلك على الأرجح أثر للدفيئة أدى إلى التسخين. وكان عدد الأنواع الذي نجا ضئيلاً، ومنها الليموريات. وهي أنواع متحركة ومتكيفة جداً ومزودة بيدين ممسكتين. وقد لجأت إلى تجويفات الصخور واحتمت بها وولدت السلالات التي أدت إلى ظهور الثدييات. واكتسبت هذه الأخيرة ميزة جديدة لتؤمن بقاء نسلها. وهي حمل البيضة في داخلها.

كان الدماغ عبر هذه المرحلة الطويلة من تطور الأنواع الحيوانية يتطور ويكتمل عبر مراحل متتالية، من الأسماك إلى الفقاريات فالطيور والزواحف فالبرمائيات وأخيراً الإنسان. ففي البداية كان الدماغ الأكثر بدائية، أي دماغ الزواحف الذي كان ينظم الغرائز الأساسية للجوع والعطش والجنس والخوف إلخ. وفي المرحلة الثانية نجد عند الطيور الدماغ المتوسط الذي يقود إلى آلية جماعية، مثل العناية بالفراخ وبناء العش والبحث عن غذاء والمشاركة والغناء. ثم تظهر المرحلة الثالثة عند الرئيسيات وبخاصة عند الإنسان: فالقشرة الدماغية التي تُدخل معطيات مجردة مثل الوعي والذكاء.

والحق أن نمو المنظومة العصبية يخضع هو أيضاً للتطور الدارويني. فالأعصاب البصرية لطفل مثلاً لا تقترن إذا كان هذا الأخير مغموراً في الظلمة دائماً. فثمة إذن بطريقة معينة انتقاء لا يحفظ سوى النطاقات الملائمة للفرد. وبالتالي فإن التعلم يعني الإقصاء. والتطور الدماغي يعني مزيداً من القدرة على الإقصاء والنمو عمودياً في سلم التطور. يعتبر ستيفن غولد أن كل حدث مهما كان تافهاً يؤثر في مجرى التاريخ. ومن هذا المنظور فالانسان كائن محظوظ إلى حد بعيد حتى الآن. وتقع عليه الآن مسؤولية المحافظة على ما منحه إياه التطور عبر ملايين السنين. فلو لم تختف الديناصورات ولم تختبئ الليموريات في أوكارها ثم تخرج منها لتعطي فرعاً متميزاً يقود إلينا لما كنا هنا. ليس ثمة صدفة ولا قصد في هذه القصة. إن الغائية التي غالباً ما زُرِعت في لاشعورنا تخفي عنا رؤية الحقيقة التي باتت واضحة تماماً، وهي أن التعقيد يزداد، وأننا حلقة في سلسلة تطور لانهائي.

الفصل السابق - الكون              الفصل التالي - الإنسان

 
 
 

أرسلوا هذه الصفحة للأصدقاء


عودة إلى صفحة العلوم

عودة إلى الصفحة  الرئيسية

حقوق النشر محفوظة للقارئة والقارئ

مدن محظورة   2009      modon net